السينما في أحيانا عدة تستخدم أسلوبها الجدلي المثير، في طريقة الطرح للعديد من قضايا الحياة؛ للتحقيق فيها؛ ودراستها بشكل أعمق؛ وأكثر من أي وقت مضى، وكأنها تستخدم هذا الأسلوب لفحص الحدود بين المتناقضات التقليدية؛ لتنسف المسلمات المسبقة.
تلك الإستراتيجية يضعها السينمائيين المميزين بعين الاعتبار، كهدف وجزء لا يتجزأ من التجربة السينمائية المطروحة؛ وكأنها أنسنة الحياة من خلال إثارة الجدل والشك؛ بعيدا عن النظرة المثالية الخادعة للنفس؛ مبتعدين بذلك عن النزعة البشرية القوية تجاه بعض الأوهام الإبداعية الفنية التي تؤديها السينما التقليدية، وكأنهم يرفعون شعار نيتشه: «أن الجسد الموجود تحت الجلد هو بالنسبة للطرف الآخر رعب لا يمكن تصوره، وتجديف ضد الحب وضد الله»….وبعض من تلك الأعمال تراها في مهرجان الجونة في دورته الثالثة.
مخرجة الفيلم الوثائقي الصيني«مشاغبو سبارو»، نانفو وانج التي أثرت الجدل من عدة سنوات بتتبعها قصة الناشط الحقوقي المعروف باسم سبارو، الذي يذهب إلى مقاطعة هاينان للدفاع عن ست فتيات تعرضن للاعتداء الجنسي من قبل مدير مدرستهن الابتدائية، سبارو يصبح مطاردا من قبل السلطات المحلية والشرطة السرية وحتى من جيرانه.
تعود المخرجة إلى سابق عهدها بجدل أخر عن سياسة الطفل الواحد التي هدفت للحد من النمو السكاني في الصين والتي فُرضت عام 1979، أي بعد عام من الإصلاحات الاقتصادية، وبموجب هذه السياسة تم فرض عقوبات على المخالفين شملت دفع غرامات والطرد من الوظيفة أو مواجهة الإجهاض الإجباري أو الإخصاء، ولكن معدل الإنجاب كان قد تدنى بشكلٍ حاد بالفعل قبل عقدٍ من الزمان؛ نراها في الجونة بفيلم (أمة الطفل الواحد) الفيلم الفائز بجائزة لجنة التحكيم الكُبرى للفيلم الوثائقي في الدورة الـ35 لمهرجان سندانس السينمائي، والفيلم من إخراج نانفو وانج وجيالينج جانج، وهو إنتاج مشترك بين الصين، الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم مرارة تلك التجربة على الناس؛ إلا أن الحلو فيها هو كيف استفادت الصين لسنواتٍ من الأرباح الديموجرافية التي تمثلت في عدد سكان هائل (نحو خُمس عدد سكان العالم) شكّل مصدراً كبيراً للقوى العاملة وأعداداً معقولة من صغار السن والمسنين، أما المر بها فهو ما خلفته من أحزان للبعض؛ فهناك بعض النساء الأكبر سناً من اللواتي بلغن الستين من العمر، أكدّن على أنه لو تم إنهاء سياسة الطفل الواحد في وقتٍ أبكر لكُن حاولن الإنجاب حتى وإن في أواخر الأربعينيات من العمر.
وإذا عدنا إلى إفريقيا بالسينما فمن منا لا يذكر المذابح التي سببتها الحرب الأهلية برواندا، وعجت بها القنوات التلفزيونية حتى مطالع سنة 1994، حيث تناحرت قبيلتا الهوتو، التي تمثل الأكثرية على المستوى الديموجرافي، والتوتسي، التي تعتبر أقلية مقارنة بالقبيلة الأولى، وقام الهوتو بإبادة جماعية في حق التوتسي؛ إذ تشير الإحصائيات إلى أنه في غضون ثلاثة أشهر فقط، قتل ما يناهز 800 ألف رواندي بسبب تناحر القبيلتين، بالإضافة إلى حالات الاغتصاب التي قدرت بعشرات الآلاف، لتعرف البلاد بعد نهاية سنة 1994 تحولات جذرية إلى الأحسن. لذلك الأديب والمخرج الأفغاني عتيق رحيمي يقدم لنا الأسباب التي وصلت بهم إلى ذلك من خلال فيلم «سيدة النيل» الفرنسي البلجيكي الرواندي المشترك، وهو الفيلم الذي ينتقى أحداثاً من رواية للكاتبة الرواندية سكولاستيك موكاسونجا، حيث تدور أحداثه حول مدرسة رواندية مرموقة تشمل خليطا عرقيا من البنات، أغلبهم من قبيلة الهوتو مقابل أقلية من قبيلة التوتسى، لكن تبدأ الاختلافات العنصرية الكامنة في النفوس، الرواية نُشرت في عام 2012 وهى كتاب موكاسونجا الرابع وروايتها الأولى. وهى لا تتعلق بالتحديد بالإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 ، بل كيف أن الانقسام الطبقي والاستعمار والتفاوت الاقتصادي قد خلقا مناخا من الاستياء والتحامل اللذين جعلا من الإبادة الجماعية أمرا ممكنا.
ويقدم المخرج «لادج لي» فيلمه (البؤساء) والذي حث الرئيسَ الفرنسي على مشاهدته مؤكدا أن العمل يتبنى مطالب حركةِ السترات الصُفْر واعتبرَها امتدادا لغضبِ الضواحي في عام 2005 وأن لا شيءَ تغيّر منذ ذلك الحين؛ ويتناول حياة المهمشين في إحدى ضواحي باريس الفقيرة، وتعامل الشرطة معهم. وكان الفيلم قد تعمد أن يكون أسمه البؤساء في إشارة لرواية «البؤساء» لفيكتور هوجو. وإن كان الفيلم غير مقتبس عن الرواية، إلا أنه على صلة قوية بها، فأحداثه تدور في ضاحية مونتفرمي الباريسية الفقيرة، التي اتخذ منها هوجو مسرحا لأحداث روايته الملحمية. وكأن القرون لم تمر، والعصور لم تتبدل، فهذه المنطقة المهمشة الفقيرة الغاضبة، بقيت على حالها، وأصبحت موطنا للاجئين والفقراء ومن يطلبهم القانون، ومن تنساهم الدولة ومؤسساتها.
وتجئ الحقيقة بدون رتوش مع المخرجة الألمانية نورا فينجشايدت التي نالت جائزة ألفريد باور لأفضل إسهام فني عن فيلمها «تصدع النظام» أو «محطمة النظام» – System Crasher ؛ تطرح فكرة غاية في الأهمية حول ادعائنا الإنسانية وقدرتنا على احتواء أزمات الآخرين من خلال (بيني) التي تعاني من نوبات الغضب المتفجرة، والتي تضعها في مواقف محرجة وتضع من حولها في خطر، حيث تتنقل بين بيوت الرعاية ولا تمكث بها لفترة طويلة، مما يدفع مؤسسة حماية الطفل لإطلاق تسمية على حالتها (محطمة النظام).
الرائع هو أن هذا العمل كان أحد أكثر الأفلام المثيرة للجدل في مهرجان برلين هذا العام ، فهو يطرح فكرة أننا نتعامل إلى حد كبير مع تلك المشاكل من خلال ما كنا نعتقد فيه، وخاصة عند التعامل مع الأطفال المثقلين بصدمات نفسية وقضايا عصبية محتملة، مؤكدا أن الاهتمام الفردي أكثر فعالية من دواء في توفير منصة مستقرة للتعافي؛ بالنسبة لأولئك الذين يشككون في الحلول القائمة على الوصفات الطبية، والذين يتم سحرهم عندما يستقر الأطفال المعذبون لفترة وجيزة.
أما الفيلم الجواتيمالي«The Weeping Woman» للمخرج جيرو بوستامانتي، الحاصل على جائزة أفضل فيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان فينسيا فيصدمنا برؤيته الخاصة للإبادة الجماعيّة في جواتيمالا، أو الهولوكوست الصامت، و مذبحة المدنيين في مايا خلال عمليّات مكافحة التمرّد التابعة للحكومة العسكريّة في جواتيمالا. كانت المذابح والاختفاء القسري والتعذيب والإعدام بدون محاكمة للمقاتلين – وخاصةً المتعاونين المدنيين مع قوات الأمن المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية- واسعة الانتشار منذ عام 1965، وكانت السياسة العسكريّة طويلة الأمد، وهذا ما كان المسؤولون الأمريكيون على علم به. الفيلم طرح المأساة من خلال الفلكلور اللاتيني ويمزج بين القليل من الواقعية السحرية لشخص غريب الأطوار في حالة من الفزع؛ ويقول بوستامانتي: «إذا لم تستطع العدالة أن تأتي من الأحياء ، فيجب أن تأتي من الأموات».
والجونة تقدم له «عفواً، لم نجدكم» الذي أستكمل به صاحب «خبر وورود» (2000) ثلاثيته المناهضة للعولمة التي بدأها بـ «إنه عالم حر» ( الحاصل على جائزة السيناريو في مهرجان «البندقية» 2007)، و«أنا دانييل بلايك» (السعفة الذهبية في مهرجان كان 2016). الطرح يتم في فيلم «عفواً، لم نجدكم» من خلال عائلة بسيطة متكونة من الأب والأم وابن مراهق وبنت صغيرة، عائلة شعبية نموذجية تعاني الأمرين من قهر النظام الرأسمالي، هو يعمل سائقا، هي تعمل مرافقة للمرضى وكبار السن في بيوتهم، يتابع كان لوتش عن قرب العلاقات العائلية وتأثرها بظروف العمل القاسية معتمدا ضربا من الواقعية الاجتماعية بات سيدها الأوحد، فاضحا اللاإنسانية لرأس المال والتنديد بها، وربما هنا بالتحديد تكمن المشكلة في أفلام لوتش، فهو لا يترك للشخصيات أي إمكانية للخلاص من تأثيره الفكري.
ويحدو بنا فيلم بيرانا Piranhas إلى عالمي الجريمة والمراهقة في آن واحد؛ تلك العوالم التي تنم عن واقع اجتماعي تعيس، ولقد فاز الفيلم بجائزة الدب الفضي كأفضل سيناريو في مهرجان برلين السينمائي 2019، السيناريست روبرتو سافيانو مطلوب من المافيا ويعيش في حالة تخفي مستمرة وهو مؤلف كتاب «كامورا»، عن عصابات نابولي المسماة كامورا، التي باتت سمعتها تضاهي سمعة المافيا الصقلية، المعروفة بمواردها وشبكاتها وعنفها، ولقد أعلنت الكامورا رغبتها في تصفية سافيانو لكونه كشف العالم السفلي الخفي في ايطاليا، ويفضح أسرار الكامورا النابوليتانية بشكل دقيق وبالأسماء والأماكن وكيفية القيام بعمليات التهريب والتزوير وتوزيع المخدرات وتصفية الخصوم والشركات والجهات المتعاونة والاستثمارات الدولية، لذلك اضطر سافيانو إلى التواري عن الأنظار، ويعتقد أنه يعيش الآن خارج ايطاليا ..لذلك فأن الفيلم هو حقيقة شديدة المرارة دفع ثمنها روبرتو سافيانو من استقراره عندما كشفها.
للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا