قبل مائة عام ولد الوفد من رحم الأمة المصرية، وأصبح ضمير الأمة والحاضن للحركة الوطنية المصرية بزعامة خالد الذكر سعد زغلول ورفاقه من الزعماء الوطنيين الذين سجل التاريخ أسماءهم بأحرف من نور لعطائهم وتفانيهم فى خدمة الوطن.. وبات الوفد قلب الأمة النابض والمعبر عن كل طموحات الشعب المصري وتطلعاته إلى حد أن بيت سعد زغلول أصبح ـ بيت الأمة ـ الذي يلجأ إليه المصريون في كل شئونه.
وسار الوفد على قدمين ثابتتين منذ نشأته بإرادة المصريين وهما الاستقلال في مواجهة الخارج والديمقراطية والوحدة الوطنية بمفهومها الواسع في الداخل، وتحولت إلى ثوابت راسخة للوفد يعمل على تحقيقها سواء بجلاء المستعمر أو إقامة الدول الوطنية المصرية، وبعد حصول مصر على استقلالها عام 1922، وتحولها إلى ملكية دستورية كإحدى ثمار ثورة 19 الكبرى تم إقرار دستور 1923 الذي جاء معبراً عن الدولة المصرية الوطنية وبناء دولة المواطنة والديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والحريات العامة، وأجريت انتخابات 1924 التشريعية، وفاز بها الوفد باكتساح برئاسة سعد زغلول وسميت هذه الحكومة بحكومة الشعب.
ومع أن حكومات الوفد المتعاقبة كانت تتعرض للمؤامرات والحل بالمراسم الملكية إلا أنها لم تتخل يوماً عن ثوابت الوفد في انحيازه للدولة الوطنية والمواطن المصري وكل القضايا الوطنية، ولعل أبرز مثال على ذلك كان حادث 4 فبراير 1942 عندما قامت القوات البريطانية بمحاصرة قصر عابدين وتهديد الملك فاروق بإجباره بالتنازل عن العرش أثناء الحرب العالمية الثانية بعد أن وصلت القوات الألمانية بقيادة روميل إلى العلمين واستشعار بريطانيا الخطورة الشديدة، مما تطلب حكومة شعبية تلقى الإجماع الوطني ويلتف حولها الشعب المصري برئاسة مصطفى النحاس.. ومع أن الملك فاروق أمسك القلم وكاد أن يوقع على وثيقة التنازل عن العرش إلا أن أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي طالبه بالتمهل، خاصة أن مصطفى النحاس باشا قد أعلن رفضه للإنذار الإنجليزي الذي يشكل إهانة للدولة المصرية، وتم استدعاء مصطفى النحاس وقبل تشكيل الحكومة حتى لا تتعرض مصر وملكها لهذه الإهانة.
ومنذ عودة الوفد للحياة السياسية مرة أخرى عام 1984 بزعامة فؤاد سراج الدين.. لم يحد الوفد عن ثوابته في المعارضة الوطنية البناءة وكان دائماً ينحاز للقضايا الوطنية على الرغم من تفجيره لكثير من القضايا ومعارضته لكثير من سياسات الحكومات المتعاقبة وحرصه على ترسيخ دولة القانون والمؤسسات والتحول نحو الديمقراطية.
إلا أنه لم يتاجر بالقضايا الوطنية ولم يعرف الانتهازية السياسية.. وهنا أتوقف أمام بعض المواقف لزعيم الوفد فؤاد سراج الدين في حرصه على ثوابت الوفد وانحيازه للقضايا الوطنية والدولة المصرية في حرب الخليج على سبيل المثال ودعمه للجيش المصري كذلك انحيازه للحكومة المصرية في كل مواقفها تجاه القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا الوطنية المتعددة، ووصل الأمر إلى حد رفض فؤاد باشا تطاول أحد الشباب على رئيس الجمهورية في أحد احتفالات الوفد باعتباره رمزاً للدولة.. ولا أنسى استدعاء فؤاد باشا لي عندما كنت أشرف على إحدى صفحات الجريدة وكان بالصفحة خبر به تجريح لأحد المسئولين، وقال لي ـ لا يجب الخروج على ثوابت الوفد لأننا ننتقد سياسات ولا ننتقد أشخاصا.
كانت هذه هي ثوابت الوفد في المعارضة الوطنية البناءة، وفى دعم الدولة المصرية بعيداً عن المتاجرة السياسية.. صحيح نحن في حاجة إلى مزيد من الديمقراطية وحرية الإعلام وترسيخ دولة المؤسسات والقانون.. وصحيح أيضاً أن الوفد عليه مسئولية تاريخية في هذه المرحلة التي تحتاج إلى بناء سياسي جديد قائم على التعددية السياسية والعمل الحزبي والنقابي والأهلي في إطار التحول الديمقراطي وبناء الدولة المصرية الحديثة وهو أمر يحتاج إلى حكمة سياسية في ظل ما تمر به المنطقة، من تشابكات وتكتلات ومؤامرات، والأمر يحتاج إلى حكمة وبصيرة في فتح شرايين العمل الحزبي والأهلي والنقابي والإعلامي لاستيعاب كل أصحاب الفكر والرأي على شتى اتجاهاتهم السياسية المؤمنين بالدولة الوطنية المصرية.
الوفد كان وسيظل على ثوابته في دعم الدولة الوطنية المصرية، حتى وان اختلف مع بعض سياسات الحكومة أو بعض الإجراءات التي تأتى بنتائج عكسية وسلبية.. ولن يكون الوفد أبداً أداة لأصحاب الأجندات الخاصة أو الخارجية أو أداة لمنتفعي العمل السياسي والمتاجرة السياسية وأصحاب رؤوس الأموال أو أصحاب المرجعيات الدينية بعد أن أكدت التجربة أن اختلاط الدين بالسياسة والمال بالسياسة لا يقل خطورة عن مساوئ الحكم الشمولي والفاشية.. وسيبقى الوفد كأقدم مدرسة سياسية في مصر على ثوابته في معارضته الوطنية التي تنحاز للوطن والمواطن المصري خاصة وأنه يعي جيداً الظروف التي تمر بها مصر والمنطقة.. كما يعي دوره في البناء السياسي الجديد بعد إقرار قانون مباشرة الحقوق السياسية خلال الفصل التشريعي القادم لمزيد من الديمقراطية وترسيخ دولة القانون والحريات في إطار بناء مصر الحديثة.
نائب رئيس الوفد
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا