ثورة 19 التي خرج من رحمها حزب الوفد، هي الثورة الأهم في تاريخ مصر الحديث، لأنها الثورة الوحيدة، التي حققت أهدافها، فأفرزت المرحلة الليبرالية الوحيدة في سطور المؤرخين، ولمن لا يعرف فقد كانت ثورة تديرها أربع طبقات من القيادات القوية التي وضعت أمامها هدفًا وحققته.. يقول مصطفى أمين في كتابه عن الثورة الأم إن سعد زغلول ترك ورقة كتب فيها «إذا اعتقلت الطبقة الأولى من قيادات الثورة تقوم الطبقة الثانية فإذا اعتقلت تقوم الثالثة وإذا اعتقلت تقوم الرابعة» وهذا يعنى أن سعد زغلول كان يخشى من القضاء على الثورة باعتقال قياداتها أو بنشر الفوضى التي قد لا تجد من يتحكم فيها فوضع أربع طبقات من القيادات.
فقد تم اعتقال أعضاء الطبقة الأولى والتي كانت تضم سعد زغلول ومصطفى النحاس وسينوت حنا وفتح الله بركات وعاطف بركات ومكرم عبيد «لاحظ أنهم أربعة مسلمين واثنان من الأقباط» وعقب اعتقال هذه الطبقة اندلعت الثورة في جميع أنحاء البلاد.. فظهرت الطبقة الثانية وكانت تضم: مرقص حنا وحمد الباسل ومراد الشريعي وعلوي الجزار وانضم لهم ببرقية من جنيف على الشمسي وأصدرت بيانًا دعت فيه إلى مقاطعة الإنجليز.. فتم القبض على أعضاء هذه الطبقة وصدر في حقهم حكم بالإعدام.. فظهرت الطبقة الثالثة والتي ضمت: المصري السعدي ومصطفى القاياتي وسلامة ميخائيل ومحمد نجيب الغرابلي وراغب اسكندر وفخري عبد النور ومحمود حلمي إسماعيل، فتم تحويلها لمحاكمة عسكرية بتهمة التآمر على نظام الحكم.. فظهرت الطبقة الرابعة وتتكون من: حسن حسيب وحسين هلال وعطا عفيفي وعبد الحليم البيلي ومصطفى بكير وإبراهيم راتب.
إذن كانت ثورة تنظر للأمام.. تريد الحفاظ على نفسها.. وقد فعلتها.. فصنعت مرحلة ليبرالية أفرزت أبرز رواد الفكر والأدب والفن والاقتصاد والسياسة.. مرحلة شهدت نبوغ الفنان المثال مختار و«أم كلثوم» و«عبد الوهاب» ونجيب الريحاني.. وعرفت طه حسين والعقاد.. وشهدت اقتصادًا وطنيًا من رموزه طلعت حرب وعبود باشا.. فكان الوطن قائمًا وقادرًا رغم الاحتلال وتمكن من التقدم للأمام علميًا بجامعة أهلية شارك في فكرة تأسيسها سعد زغلول مع الإمام محمد عبده.. فقد كان سعد زغلول يعرف أن العلم هو الشعلة التي تنير الطريق للوطن وأن أبناءه المتعلمين هم ثروته الحقيقية!!
قيمة ثورة 1919 ليست في مظاهراتها العارمة، وليست في الضغوط السياسية على الإنجليز، أو قدرتها على تقليم أظافر الملك، في مواجهة الشعب، ولكن قيمتها الحقيقية، هي أن الأمة أصبحت مصدراً للسلطات، بصرف النظر عن انتهاك السلطة لهذا المفهوم، عبر استخدامها للقوة والبطش، ولكن المصريين كانوا يواجهون البطش، بالمواجهة السياسية والدستورية، وكانوا يعرفون أنهم يتعرضون للسرقة، وكانوا يقولون للحاكم قف مكانك.. نحن هنا! وكانت الثورة هي قوة الدفع التي جعلت الوطن يتوحد خلف زعيمه في كل المعارك.
في عام 1922 تم تشكيل لجنة لوضع الدستور وقانون الانتخاب برئاسة حسين رشدي باشا وكان أحمد حشمت باشا نائبًا له، وهو الدستور الذي صدر عام 1923، وكانت تضم اللجنة بالإضافة إلى ذلك 30 عضوًا ولذلك عرفت باسم «لجنة الثلاثين».. وضمت اللجنة مفكرين وأدباء ورجال قانون ورجال مال وأعمال وأعياناً ورجال دين وتجارًا وساسة وعلماء وامتنع حزب الوفد والحزب الوطني عن المشاركة فيها، وقد وصف الزعيم سعد زغلول، الذي كان وقتها في المنفى، هذه اللجنة بأنها «لجنة الأشقياء» لأنه طالب بأن يضع الدستور جمعية وطنية تأسيسية تمثل الأمة لا لجنة تؤلفها الحكومة.
وكان اعتراض سعد زغلول مستندًا إلى مبدأ لا يقلل من أعضاء التأسيسية التي ضمت وقتها أسماء لامعة هي: يوسف سابا باشا وأحمد طلعت باشا ومحمد توفيق باشا وعبد الفتاح يحيى باشا والسيد عبد الحميد البكري والشيخ محمد نجيب والأنبا يؤانس وقليني فهمي باشا وإسماعيل أباظة باشا ومنصور يوسف باشا ويوسف أصلان قطاوي وإبراهيم أبو رحاب باشا وعلى المنزلاوي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد على علوبة بك وذكريا نامق بك وإبراهيم الهلباوي بك وعبد العزيز فهمي بك ومحمود أبو النصر بك والشيخ محمد خيرت راضى بك وحسن عبد الرازق باشا وعبد القادر الجمال باشا وصالح لملوم باشا وإلياس عوض وعلى ماهر بك وتوفيق دوس بك وعبد الحميد مصطفى بك وحافظ حسن باشا وعبد الحميد بدوى بك. ورغم رفض سعد لهذه اللجنة كان أول المدافعين عن الدستور فى مواجهة الطغيان والاستبداد.. فقد جاء دستورًا معبرًا عن كل الأمة وليس دستورًا فئويًا أو دينيًا أو حزبيًا.
لقد كان موقف سعد نابعًا من مبدأ رفضه لاختيار الحكومة لأعضاء اللجنة.. وقاد ثورة ثانية لتصحيح الأوضاع المقلوبة.. رغم أنه قاد ثورة تنظر للأمام فصنعت مرحلة ليبرالية أفرزت أبرز رواد الفكر والأدب والفن والاقتصاد والسياسة.
نعم.. ثورة 19 هي أعظم ثورات مصر عبر تاريخها.
Tarektohamy@alwafd.org
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا