نون والقلم

وتيرة تسارع الأحداث

هل الأحداث العالمية الجارية حالياً في مناطق العالم المختلفة، تجري بوتيرة أسرع مما كانت عليه في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم؟
إذا كان الأمر كذلك، هل نرده إلى الاستجابات الحتمية للظروف الموضوعية المحضة؟ أم أن للعامل الذاتي حضوره ومساهمته أيضاً في إحماء وتيرة تسارع الأحداث الراهنة؟ ثم ماذا تعني هذه الوتيرة المتسارعة للأحداث التي لم تخل من تهديدات علنية ومفتوحة بشن الحرب (أمريكا و«إسرائيل» ضد إيران على سبيل المثال) وباستخدام أسلحة التدمير الشامل (“إسرائيل” ضد إيران والعكس، وكوريا الشمالية ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان)؟
وما هي دلالة سيولتها وجسامتها التي تصل لحد تشطير وتقسيم دول فعلياً، تهيئة لتكريسها رسمياً «دول جزرية» متناثرة ومتنافرة؟
هي أسئلة تطرحها وقائع الأحداث العالمية المتوالية تباعاً التي تقاطعت ربما مع الهواجس والأسئلة التي سبق وأثارتها القراءات المستقبلية لعالم الغد المازجة بين الخيال السوداوي وعلائم الحقائق المادية الشاخص بعضها أمام الناظر المتفحص، من قبيل كتاب «قرننا الأخير.. هل يتمكن العنصر البشري من البقاء في القرن الحادي والعشرين؟» لمؤلِّفه العالِم البريطاني المعروف والمتخصص في علم الكونيات وعلوم الفضاء، «مارتن ريس».
بمؤشرات القياس الكمّي ومؤشرات القياس النوعي، يمكن القول إن أحداث العالم في السنوات الأخيرة، تجري بوتيرة سريعة، أسرع مما كانت عليه في العقود الماضية. في الماضي القريب كانت هناك حروب صغيرة، معظمها كان يتم بالوكالة عن قطبي الصراع الأصيلين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وكانت هناك انقلابات عسكرية تطيح حكومات وتنصِّب أخرى، لكن هذه الحروب وهذه الانقلابات التي تلاشت وتفرقت، لا توازي الأحداث العالمية الجارية اليوم بسرعة فائقة ونوعية غير مألوفة، من حيث أنها ليست نتاجاً طبيعياً لعملية «فقس»، طبيعية، لتراكمات كمية مفضية حكماً – بفعل استنفاد طاقتها الاستيعابية – إلى «فقء» فقاعتها بما يسفر عن حالة نوعية عاكسة لحجم التراكمات «المخنوقة في محابسها»، بقدر ما هي نوع استثنائي من الحالات الدراماتيكية فاقعة الوحشية باستحضارها أدوات وأساليب القتل البدائية جنباً إلى جنب مع الأدوات الحربية الحديثة والفتاكة، ومن حيث سعة مسرح العمليات التي تتمدد فيها، ومنها بسرعة فائقة، إلى أمكنة جديدة حاضنة، وأيضاً من حيث النتائج المرعبة التي أسفر ويسفر عنها حتى الآن طوفان زخمها، من إعطاب منظم للوعي الجمعي وكسر لإرادة الحياة والعيش الآمن المشترك، إلى التدمير المؤسسي، والتحطيم المجتمعي، المنظم أيضاً، وتدمير وإفناء الكنوز الحضارية التي ظلت لآلاف السنين شاهداً على العراقة التاريخية والحضارية للمناطق التي يجتاحها هذا التسونامي الوحشي لأحداث العقدين الأخيرين.
من دون شك، فإن بعض أسباب هذا الزخم المتسارع لجسامة الأحداث المتهاطلة على رأس الكوكب الأزرق، لاسيما منطقة الشرق الأوسط، تعود إلى العوامل الموضوعية التي كان لا بد أن تفضي تراكماتها وتفاعلاتها الداخلية إلى التعبير عن نفسها يوماً ما بطرائق شتى. فالعالم بمجمله ينوء بأثقال الفقر المدقع، فهناك 2.7 مليار إنسان (36.5% من إجمالي سكان العالم) يكابدون العيش بأقل من دولارين في اليوم بحسب «مشروع الألفية» (Millennium Project) الذي أطلقته الأمم المتحدة في عام 2002 لاقتراح خطة عمل عالمية لمكافحة الفقر والمجاعة والأمراض. ويضطلع العالم العربي بحصة وفيرة من قنبلة الفقر العالمي، إذ يقدِّر الدكتور هاني فاخوري استاذ الإنثروبولوجيا (علم الانسان) بجامعة ميتشيغان أن نحو نصف السكان العرب يعانون الفقر، وإن أكثر من ثلثي الأراضي العربية غير صالحة للزراعة، وإن نقص الغذاء وشحة المياه يشكلان تحديين إضافيين للعالم العربي بمجمله. تضاف إلى ذلك نسبة البطالة العالية التي تشير تقارير البنك الدولي إلى أن العالم العربي يعاني أعلى نسبة بطالة في العالم هي 23% مقابل المتوسط العالمي البالغ 14%. وهو ما يفسر بنحو من الأنحاء مشكلة الهجرة التي أصبحت أخطر ظاهرة تهدد الوطن العربي في الوقت الراهن، باعتبارها نتيجة طبيعية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذا النزاعات التي تعيشها بلدانه.
ذاك في ما خصّ العوامل الموضوعية المفضي تراكمها إلى تزاحم صواعقها على أبواب تفجيرها. إنما العوامل الذاتية المتمثلة في تدخل العنصر البشري في استعجال إنضاج تلك الظروف الموضوعية وتفجير صواعقها بدفع من «فلسفة الفوضى البناءة»، هي التي تفسر هذه الوتيرة المتسارعة والمتزاحمة للأحداث ولجسامتها. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اجتماع واتفاق مذهل ومريب يجمع الدوائر الضيقة لصنع القرار مع خزانات أفكارها (Think Tanks) على مسألة إحداث تغييب اصطناعي مؤقت للعقل الرشيد في عملية «تصنيع» وإخراج السياسات العملانية وتطبيقاتها على الأرض، بغض النظر عن فظاعتها وبشاعتها غير المستقيمتين مع كليشيهات ونمطيات ترشيد وعقلنة الخطاب والسياسات المروَّجة في مختلف وسائط الميديا بمساحيق تجميل أنيقة.
هو استحضار لمغامرة العقل البدائي الأولى، يجزم راكبوها أنها يمكن أن تعيد تشكيل العالم على النحو الذي فعلته وحشية الإنسان الأول في قلب موازين ونواميس الحياة «الرتيبة» لبواكير المجتمعات الأولى والكيانات الأولى للدول. حتى اللحظة فإن نتائجها تبدو كارثية بكل المقاييس الحضارية، حيث شطبت عقود من البناء والإعمار والتنمية البشرية، وأعادت مجتمعات ودول بأكملها إلى عصور ما قبل الحضارة، حيث لا مياه صالحة للشرب ولا كهرباء ولا تعليماً نظامياً ولا خدمات صحية معيارية، فضلاً عن انتفاء وسائل العيش الكريم الأساسية، من غذاء وكساء وسكن. وهذه على ما يبدو مقدمة لما ستؤول إليه أحوال أجزاء كبيرة من الكوكب الأرضي في ضوء إصرار جهابذة «الفوضى الخلاقة» وتطبيقاتها، على مواصلة العمل بأدواتها.

 

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button