أخطأت شبكة الجزيرة الفضائية إذ حذفت جزءً من البرنامج الوثائقي الذي أعده فريقٌ من العاملين فيها حول «الهولوكوست اليهودي»، قبل أن تزيله كلياً من موقع القناة الرقمية، وأخطأت أكثر عندما أوقفت اثنين من معدي البرنامج رغم مهنيتهم العالية ومصداقيتهم المقبولة، وذلك استجابةً لوزارة الخارجية الإسرائيلية، التي قدمت لها وللحكومة القطرية اعتراضاً شديد اللهجة على قيامها بإنتاج هذا البرنامج، الذي رأت أنه معادٍ للسامية، ويهين اليهود ويستخف بمحنتهم، وينكر جوانب مأساوية من نكبتهم، الأمر الذي من شأنه الإساءة إلى مشاعر ملايين اليهود في كافة أرجاء العالم.
وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية قد ضجت بالتقرير وانتقدته بشدةٍ، وقامت بحملةٍ كبيرةٍ للتشهير بشبكة الجزيرة، واتهمتها بالمسؤولية عن التقرير، وطالبت حكومة كيانها بالضغط على الحكومة القطرية وشبكة الجزيرة لوقف بث البرنامج، وشطبه من أرشيف الشبكة، وإزالته من على شبكة الانترنت، ومطالبة الحكومة القطرية بتقديم إعتذارٍ واضحٍ وصريحٍ عن هذه الإهانة التي لحقت بضحايا المحرقة اليهود، وهو ما قامت به وزارة الخارجية الإسرائيلية، فيما بدى أنه استجابة فورية لضغط الشارع الإسرائيلي، خاصةً في ظل مساعي نتنياهو المحمومة لبناء ائتلافه الحاكم تمهيداً لتشكيل حكومته الجديدة.
استجابت شبكة الجزيرة للطلب الإسرائيلي، فيما يبدو أنه اعتذار عن البرنامج، والتزام بعدم إعادة بثه مرةً أخرى، فضلاً عن قيامها بمعاقبة بعض المشرفين عليه، من خلال توقيفها لهم عن العمل، رغم أن التقرير لم يجافِ الحقيقة، ولم يتجاوز الوقائع، ولم يزور الحقائق، إذ اعترف بالمحرقة وأقر بضحاياها من يهود أوروبا، لكنه أكد على حقيقةٍ دامغةٍ، لا يمكن لعاقلٍ أن ينكرها، إذ يقر بها كثيرٌ من المراقبين المنصفين، الذين يؤكدون أن الكيان الصهيوني قد وظف المحرقة لخدمة أهدافه وللوصول إلى غاياته، وأنه ما زال يبتز الحكومات الأوروبية ويضغط عليها، ويساومها على مسؤولية حكوماتها عنها، رغم أنها كانت حكومات نازية لا تربطها أي علاقة بحكومات أوروبا الحالية، فلا توجد دولة أوروبية لا تدفع للكيان الصهيوني تكفيراً عن دورها في المحرقة، وإن كانت ألمانيا أكثر من يدفع ضريبة المحرقة، وأكثر من يتلو مزامير التأنيب والندم.
هل يستطيع أحدٌ أن ينكر أن الحكومات الإسرائيلية قد نجحت في جعل المحرقة «الهولوكوست» بمثابة مقدسٍ يهودي، لا يجوز لأحدٍ أياً كان أن ينكر وقوعها، أو يشكك في أعداد ضحاياها، أو يحمل يهود أوروبا بسلوكياتهم الشائنة المسؤولية عنها، حتى باتت الدساتير الأوروبية تنص على محاكمة كل من يتجرأ على المساس بها بسوءٍ، وشهدت المحاكم الأوروبية عشرات الحوادث التي حوكم فيها فلاسفةٌ ومفكرون، ومؤرخون وكتابٌ، وطرد وحرم سياسيون كبار ممن حاولوا إعادة دراسة المحرقة بصورةٍ موضوعية، خاصةً لجهة عدد الضحايا، وقدرة أفران الغاز في الفترة المحدودة على استيعاب الأعداد المهولة التي يقدرها اليهود بستة ملايين يهودي.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فهل تستطيع حكومةٌ عربيةٌ تحت ضغط الشارع الشعبي الطلب من الحكومة الإسرائيلية، الكف عن بث التقارير العنصرية المسيئة إلى العرب والفلسطينيين، والتوقف عن تزوير الحقائق وتغيير الوقائع وتزوير التاريخ، وتقديم الاعتذار إلى الدول العربية التي أساءت لها وأخطأت في حقها، أو ارتكبت جرائم ضدها، ولدى الأنظمة العربية الكثير من القضايا المشابهة التي يمكنها أن تعمد إليها، وتطالب الحكومات الإسرائيلية بالتراجع عنها وتقديم الاعتذار للمتضررين بسببها، فقد اعتدى جيش العدو على المدارس وقتل تلاميذها، وأغار على البلدات والمدن وقتل أطفالها ونساءها وشيوخها، ودمر البنى التحتية، والمؤسسات المدنية، ومن قبل قتل الجنود العرب الأسرى، ودفن بعضهم أحياءً في الصحاري العربية، فهل تجرأت حكومة عربية على مطالبة إسرائيل بالترادع أو الاعتذار.
لست مع الظلم الذي تعرض له اليهود في أوروبا، ولا أؤيد الجرائم النازية التي ارتكبت في حقهم، وأستنكر المحرقة وأرى أنها أحد أشكال الظلم ضد الإنسان، ولكنني لا أستطيع أن أنكر أن الكيان الصهيوني منذ أن تأسس في العام 1948 إلى اليوم، وهو يقتات على المحرقة، ويعيش على ابتزاز دول العالم على حساب الفلسطينيين وحقوقهم، فهل تجيز لهم محنتهم ظلم شعبٍ طرده من وطنه، وتشريده في أنحاء الكون لاجئاً محروماً من حقه في دولةٍ ووطنٍ وعلمٍ، وممنوعاً من العودة إلى دياره واستعادة ممتلكاته، أم أنها المعايير الدولية العرجاء، والسياسات الحمقاء التي تخلصت من الشر في بلادها ونقلته إلى أوطاننا، وزرعته في بلادنا، شيطاناً مريداً وسرطاناً لعيناً واستيطاناً خبيثاً.