بعض المراقبين كتبوا يقولون أن المستفيدة الكبرى من إتفاقية فيينا هي دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بناء على تحليل مفاده أنه لولا هذه الاتفاقية لعانت دول الخليج العربية من رعب دائم، خصوصا مع استحالة وقف البرنامج النووي عبر عمل عسكري قد يؤدي إلى كارثة بيئية وإنسانية كبرى في المنطقة لا مجال لكبحها.
ومثل هذا التحليل لئن كان صحيحا، فإن الصحيح أيضا هو أن حالة الخوف وعدم الثقة بين إيران وشريكاتها العربيات في بحيرة الخليج سوف تزداد وتتعمق بوجود جار باركت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي رسميا تحوله إلى قوة إقليمية تحت مبررات سبق لنا دحضها، بل ثبت عدم صمودها.
والمستفيدة الأخرى ـ طبقا لهؤلاء المراقبين ـ هي إسرائيل التي يقولون أن إتفاقية فيينا تضمن بقاءها كدولة نووية وحيدة في منطقة الشرق الأوسط، لكنها تكابر وترفض الإتفاقية في محاولة لإبتزاز الولايات المتحدة.
وبطبيعة الحال فإن الولايات المتحدة تبدو مستفيدة هي الأخرى، لأن الإتفاقية سوف تعطيها مزيدا من المرونة والموارد للتعاطي مع التحديات التي تواجهها في أوروبا والشرق الأقصى، ولاسيما من قبل الصين الصاعدة بقوة والتي من المؤكد أنها سوف تستثمر رفع العقوبات عن طهران لتعزيز موقعها في الشرق الأوسط على نحو ما ستفعله موسكو أيضا. بل أن الصين تبدو في وضع أفضل لجني المكاسب، ولاسيما فيما يتعلق بمشروع إعادة إحياء طريق الحرير، وهو مشروع ذو بعد استراتيجي للصين، وكانت إحدى العقبات التي تواجه تنفيذ شقه المتعلق بالنقل والطاقة هي العقوبات المفروضة على طهران والتي تحررت منها الآن.
لكن الواضح من تتبع مجريات مفاوضات إيران مع مجموعة 5+1، والبنود المعلنة لإتفاقية فيينا أن الرابح الأكبر هو النظام الإيراني، خصوصا وأن الولايات المتحدة الأمريكية قدمت التنازل تلو التنازل للإيرانيين كي تتم الصفقة. وآية ما نقول هي أن أصل المفاوضات في البداية كان يستند إلى تخفيف العقوبات الدولية المفروضة على طهران مقابل رضوخ الأخيرة لإنهاء برنامجها النووي المثير للشك والريبة. لكن بمرور الوقت تنازلت واشنطون أولا عن حق حصول الإيرانيين على المفاعلات النووية بشرط عدم تطوير قدراتهم في مجال تخصيب الوقود النووي، ثم تنازلت ثانيا عن حقهم في التخصيب بشرط أن يكون ذلك ضمن رقابة صارمة، وأخيرا تنازلت لهم عن موعد فرض الرقابة الصارمة بتأجيله إلى مرحلة لاحقة.
ومجمل القول هو أن المفاوضات التي كانت في جوهرها تتعلق بتخفيف العقوبات التجارية والمالية تطورت مع الوقت إلى إتفاقية تحرر طهران من تلك العقوبات وترفع التجميد عن إسماء شخصيات ومؤسسات إيرانية مشبوهه، بل وتذهب أبعد من ذلك بمعنى مساعدة واشنطون وحليفاتها الغربيات لطهران في مجالات الطاقة والتمويل والتكنولوجيا والتجارة لتصبح أكثر نموا، لكن دون أن يقترن هذا بأدنى ضغط على النظام الإيراني لجهة وقف دعمها للجماعات الإرهابية في الخليج والشرق الأوسط، أو تغيير سلوكها الاجرامي السيء في دول المنظومة الخليجية ولبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، أو إجبارها على مراعاة حقوق أقلياتها ومباديء حقوق الإنسان بصفة عامة داخل أراضيها. كل ذلك مقابل نظام مبهم مليء بالثغرات يتيح قدرا من الرصد والتحقق لجهة منع طهران من الوصول إلى عتبة إمتلاك سلاح نووي كامل.
بقي أن نقول أن السياسات الخارجية الإيرانية، ولاسيما تجاه دول الخليج العربية، لن تتغير إلى الأفضل لأنها قائمة على مباديء تصل إلى مرتبة القداسة بسبب صياغتها من قبل الإمام الخميني، وعلى رأس هذه المباديء مبدأ تصدير الثورة إلى دول الجوار والتدخل في شئونها عبر باب الإدعاء بوجود مظالم ضد مواطنيها الشيعة. بل ربما يحدث العكس بفعل نشوة الانتصار التي تشعر بها دوائر صنع القرار في طهران. وبمعنى آخر فإن هناك إحتمال أن توسع طهران نفوذها في الساحات التي لها فيها أنظمة أو جماعات موالية مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين، وذلك على حساب نفوذ الدول المؤثرة في الشرق الأوسط مثل المملكة العربية السعودية التي فقدت الثقة في كل ما يصدر من الجمهورية الإسلامية منذ زمن بعيد.
ولئن كان إلغاء العقوبات الإقتصادية ضد إيران من شأنه إحداث تغيير في شكل الإقتصاد الإيراني، وتوجيهه نحو وجهة جديدة قائمة على جذب الإستثمارات الأجنبية والتنافسية، وبالتالي تحقيق معدلات نمو أكبر، فإن هذا الأمر لن يحدث بين ليلة وضحاها، بل يتطلب سنوات طويلة سوف يئن خلالها الايرانيون من البطالة والعوز اللذين قد يستخدمهما التيار المحافظ كورقتين ضد التيار الإصلاحي لتأكيد أن إتفاقية فيينا لم تأت بالمن والسلوى للشعب الإيراني، وإنها مجرد عملية نصب قادها «الشيطان الأكبر».
أما فيما يتعلق بتداعيات إتفاقية فيينا على العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية فإن طهران ــ في ظل الصراع الدائر ما بين الجناحين: المحافظ (الذي يرى أن الصراع مع الغرب هو أحد العناصر المكونة لهوية البلاد الثورية والإصلاحي (الذي يرى أن إيران يجب ألا تبقى في حالة عداء دائمة مع الغرب) ــ ستقترب من واشنطون بالقدر الذي يحقق مصالحها فقط كيلا تتهم بموالاة عدوتها السابقة. وبكلام آخر سوف تتبع مع واشنطون سياسات ومواقف إنتقائية لا تصل إلى حالة التنسيق التام في جميع الملفات، وذلك على خلاف ما حلم به أوباما وأركان إدارته.