«كارتر»من مفتش للآثار، إلي مرشد سياحي يقف أمام فندق «ونتر بالاس» بالأقصر لاصطياد زبائنٌه، ومع نوادره ننتقل عبر سطور الحلقة الثالثة لسيرتِه لنحكي لكم قصّة أشهر رجل في العالم، اكتشف أغلي كنوز مصر التي تجوب الدول والمدن الأوربية لتؤكد أنّ في مصر ملوكاً وزعماءً تربعوا علي عرشها وهم يحملون أقواس النصر متعاقبين علي حكم مصر حتى كتابة هذه السطور .
عمل «كارتر» هذه المرة شيالاً لحقائب الملك الدبلوماسية بين القاهرة ولندن عن طريق البحر، وكانت التعليمات الصادرة له تمنعٌه من نقل أي شيءِ آخر داخل حقيبة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمي، لمنعهٌ من جرائم التهريب التي كانت منتشرة في هذا الوقت، قام الرجل بمهمته عدة مرات حتى وصل يوماً إلي ميناء بورسعيد فسأله موظف الجمارك البريطاني عما إذا كان معهٌ شيءٌ آخرَ غير الحقيبة، فأجاب بالنفي .
لكنّ موظف الجمارك قام بتفتيشه، فعثر معهٌ علي علبة سجائر فضية، فسألهٌ الموظف عن مصدرها، فقال أنّ هناك سيدة في لندن توسلت إليه أن يحمل هذه العلبة هدية لابن أخيها في مصر.
وكانت السيدة قد أرسلت برقية لابن أخيها تخبرٌه بأنّ «كارتر» يحمل معٌه هدية لك مني، وهي علبة سجاير فضية ومعها ولاَّعة غالية الثمن، فوقعت البرقية في يد الرقيب العسكري الذي قام بدوره بإبلاغ السلطات فتم إعداد كمين لـ «كارتر» وأمسكوا بعلبة السجاير والقداحة، ولم ينتهِ الأمر إلي هذا الحد بل أعدوا له قراراً بالفصل من عمله لمخالفته التعليمات أثناء الحرب !
وهكذا عاد «كارتر» إلي الأقصر في خريف 1917، وبدأ يحفٌر في وادي الملوك مرة ثانيةً باحثاً عن حِلمٌ في عقلِه يخالجٌه منذ سنوات طويلة، فقد كان هاوياً للحفر والتنقيب عن الآثار، يشم رائحة الآثار عن بٌعد.
بدأ «كارتر» يحفر في منطقة مثلثة تمتد من قبر الملك رمسيس السادس إلي ميرنبتاح ورمسيس الرابع .
وقرر أنْ يزيل التراب عن كل شبر ليصل إلي غايته في هذا المثلث الذي يبلغ حجمه فدانين ونصف الفدان، وعند مدخل قبر رمسيس السادس حفر إلي عمق 15 ياردة فوجد أكواخاً تشير إلي أنّهٌ كان يجري هنا بناء مقبرة، وفي شهر أكتوبر عام 1918 بدأ موسم الحفر الثاني، وظل يحفر لمدة 5 سنوات دون جدوى، ومع ذلك لم يقطع «كارتر» الأمل، وظل يسدد رسوم امتياز الحفر والتنقيب، وقام عٌمَّالٌه بنقل 200 ألف طن من الرمال والحصى دون العثور علي شيءِ، بعدها أصبح «اللورد كارنارفان» في حالة نفسية سيئة لما آلت إليه الأمور فالرجل كان دائماُ ما يجنحٌ إلي الصمت ساعات طوالاً.. يفكر في الرحيل عن مصر لأنّهٌ لم ينجح، وفقد حماسٌه للعملية كٌلَها، وكان قد بلغ السابعة والأربعين من العمر .
استدعي «اللورد» مساعدٌه «كارتر» للقائه في عزبته بإنجلترا في صيف 1922 ،وكان اجتماع الرجلين أخطر لقاء منذ أن التقيا لأول مرة قبل 15 عاماً.
كان الرجلاَن يشبهان بعضهما في كل شيء طولهما متوسط، شواربهما رفيعة، شعرهما أسود، ملابسهما متشابهة، الجاكتة من التويد والقميص أبيض، ويختلفان فقط في القبّعة، ومن يرهما يحسبهما شقيقين، أو ابني عم، أو أحدهما صورة متكررة للثاني، فالبعض يقولون أنّ «كارتر» هو الروح الأخرى لـ«كرنارفان» أو ما يطلق عليه القدماء المصريين «كا»، والاختلاف كان في الطباع .. اللورد يكسب الأصدقاء بسهولة، وكارتر يخسرهم بسهولة أكثر، فالورد له أصدقاء كثيرون من الباشاوات إلي الفلاحين، فقد تعاطف مع آمال الشعب المصري في الاستقلال، ولذلك أقام للزعيم سعد زغلول مأدبة عشاء في عزبته بإنجلترا، والغريب أنّ «كارتر» رجل استعماري بعكس صديقهٌ!!
وأثناء اللقاء بين الصديقين قرر اللورد التخلي عن البحث والتنقيب عن ملوك مصر بسبب الأزمة الاقتصادية في أعقاب الحرب العالمية الأولي، فقد أنفق اللورد 50 ألف جنيه علي أعمال البحث والتنقيب علي مدار 15 سنة، لم يحاول «كارتر» إنكار هذه الحقيقة بل قال أنٌّه لازال يأمل في العثور علي قبر فرعوني سليم، وتحدث الرجل عن موسم الشتاء القادم! فقاطعه اللورد قائلاً: يجب أن نتوقف! قال كارتر: إنّ الفشل حتى الآن لا يؤثر علي قناعتي بأنّ هناك قبراً ملكياً وليس قبراً عادياً – لم يكتشف بعد.. وهناك دلائل علي وجوده وهو قبر الملك توت عنخ آمون الذي حكم مصر في عصرها الذهبي قبل ثلاثين قرناً !
وفي النهاية أقنع كارتر اللورد علي الاستمرار في عمليات التنقيب والبحث عن مقبرة الملك، خاصة أنّ متحف «المتروبوليتان» في نيويورك مستعد لتمويل عمليات البحث عن آثار مصر. وفي الرابع من نوفمبر عام 1922بعد 15 عاماُ من التنقيب والحث وجد «كارتر» مقبرة الملك توت عنخ آمون وهي أفضل مقبرة علي مر التاريخ، فلم تمس أو تٌسرق من قبل بوادي الملوك، وأرسل برقية إلي شريكه في الكفاح والبحث اللورد كارنارفان للمجيء إلي الأقصر، فوصل الخواجة إلي مصر في السادس والعشرون من نفس الشهر وجاء بصحبة ابنته، فقام كارتر بعمل كسر صغير في مدخل المقبرة، وأصبح الملك توت عنخ آمون أمام أعيٌن الناظرين، حيث شوهدت الآثار الذهبية الخاصة بالمقبرة ،بخلاف خشب الأبنوس التي بقيت في مكانها منذ ذلك الوقت.. وحتى ذلك الحين لم يكن كارتر يعلم بعد هل هي مقبرة أم مجرد مخبأ ولكنّهَ تأكد عندما شاهد ختم واضح بأحد الأبواب المحروسة بين تمثالين، وعندما سألهٌ اللورد كارنارفان: هل وجدت شيئاً؟ كانت الإجابة بنعم، رأيت أشياءً مذهلة .. كانت هذه هي قصة كفاح طويلة امتدت 15 سنة من أجل تحقيق حٌلم كارتر الذي أصبح أشهر رجل في العالم في ذلك الوقت بعدما كشف عن أهم اكتشاف أثري في مصر والعالم، ومازال الملك «توت عنخ آمون» يطوف العالم بالطائرات بعد أن كان مدفوناً بين جدران الزمن القديم ..
mohammedkhalifakhalifa@yahoo.com
مقالات ذات صلة:
-
محمد خليفة يكتب: «كارتر» مفتشاً للآثار في صعيد مصر والنوبة(1)
-
محمد خليفة يكتب: «كارتر» مرشداً سياحياً يقف علي أبواب الفنادق يبيع رسوماته!(2)
للمزيد من مقالات الكاتب اضغط هنا