رغم السنوات الطويلة في متابعة معارض الكتب بحكم مهنتي الإعلامية إلا أنني أجد نفسي أمام موقف آثار انتباهي واستوقفني طويلا في محاولة فك ما اعتبرته لغزا… أصادفه لأول مرة وأنا اشهد بعيني حركة شم المعروضات قبل الشراء والتي اعتبرتها غير مبررة في معرض كتاب.
ففي زيارة قمت بها اليوم لمعرض ابوظيي الدولي للكتاب أثارني والى حد الاستفزاز ما قامت به سيدة في الثلاثينيات من عمرها أثناء وقوفها أمام دار نشر فعندما أمسكت كتابا حرصت أولا على أن (تشمه)، نعم تتصفحه وتشم الأوراق.. فقلت في نفسي وأنا أضحك ربما هذا كتاب طبخ رغم أن كتب الطبخ تقرأ ولا تشم !!!
لكن الأمر تكرر مع أكثر من 10 كتب.. عندها تأكدت أن في الأمر سرا ما..
وهنا ظللت أتابع ما يجري من بعيد وبداخلي فضول قاتل لمعرفة السبب، وعندما هدأت السيدة قليلا في البحث عن كتب، وأيضا عن شمها، قلت لا بد أن أعرف السبب مهما كان في الأمر من تطفل، ولم أهتم بردة فعلها إن كانت سلبية..
هممت بالوقوف في الجانب المقابل لها من طاولة عرض الكتب وأمسكت كتابا وفعلت مثلما فعلت تماما، فنظرت إلي باستغراب، وأحسست أن لديها نفس الفضول لتعرف لماذا أشم الكتاب أكثر من فضولي لمعرفة سبب شمها هي للكتب، وتبسمت ابتسامة خفيفة بوقار وهنا قلت هذه اللحظة المناسبة لتوجيه سؤالي، وبالفعل قلت لها بشكل مباشر: هل فعلت أنا شيئا غريبا عندما شممت أوراق الكتاب؟، فقالت وهي تبتسم: لا، بل لفت انتباهي ما فعلت..
فقلت لها وأنا أضحك: عادي جدا فهذا كتاب في الطبخ وعلى فكرة أنتِ فعلت ذلك في 10 كتب ولم أندهش رغم أن ذلك لفت انتباهي.
وهنا ضحكت السيدة هي الأخرى ضحكة مغلفة بالخجل فأدركت أن هذه اللحظة هي أفضل فرصة لتوجيه سؤالي الأهم الذي فعلت كل هذا من أجل معرفة إجابته فقلت لها : لماذا تحرصين على شمّ الكتب بهذه الطريقة؟..
فقالت بكل أريحية بعد أن أخذت نفسا عميقا: الموضوع باختصار أن أبي رحمه الله كان يشتري جميع كتبه من دار نشر واحدة لا تنشر إلا لكتّاب بعينهم، وكانت لأوراق كتبها رائحة محببة جدا لي، فقد كنت أحرص على قراءة كل كتاب اشتراه أبي بعد أن يقرأه، وكنت أثناء القراءة أشم رائحة الأوراق الممزوجة برائحة يد أبي، وعندما أنتهي من الكتاب كانت تجمعني بأبي الراحل الكثير من النقاشات حول الكتاب ومحتواه.. وكان هذا الأمر يتكرر مع كل كتاب جديد يشتريه أبي تحديدا من تلك الدار ولكتّاب معينين..
وما فعلته اليوم ما هو إلا شوق وحنين إلى أبي الراحل منذ عشر سنوات، علني أشم رائحة الكتب التي كان يشتريها وأستعيد مع رائحتها تلك اللحظات التي افتقدتها منذ رحيله، أي باختصار أنا أبحث عن رائحة أبي ورائحة أي شيء كان يحبه !!!
هنا أدركت معنى جديدا للوفاء فلم أستطع البوح بكلمة سوى وفقك الله ياسيدتي .. وأدام عليك الوفاء لأغلى الأحباء بحاسة الشم ووفرة الكتب وتزايد المعارض في كل الأوقات وكل الأنحاء.
إعلامي مصري مقيم في الإمارات