إذا كان هناك ما يقلق السودانيين في هذه اللحظة فهو البطء الحاصل في عملية انتقال السلطة إلى حكومة كفاءات مدنية، واستكمال هياكل سلطات الفترة الانتقالية ومعالمها. فمن دون هذه الأشياء لن تبدأ الأوضاع في الاستقرار، وكلما طالت فترة الانتظار ازدادت العقبات وبرزت الخلافات وازدادت الشكوك التي توجد جهات كثيرة تعمل على تغذيتها، في مقدمتها الدولة العميقة التي لم يبدأ تفكيكها بشكل جدي حتى اللحظة، ولم تلمس قرارات المجلس العسكري المتخذة حتى الآن سوى قشورها. الأخطر من ذلك أن تتسع الهوة بين المجلس العسكري من جهة، والمعتصمين وقوى الحرية والتغيير من جهة أخرى، لأن ذلك قد يقود إلى صدام لا يريده عاقل.
من حسن حظ الثورة السودانية أنها تستطيع أن تقرأ وتستفيد من تجارب ثورات الربيع العربي لتفادي ما انتهت إليه من إحباطات أو فشل أو احتراب. لذلك تتقاطر المزيد من الجموع نحو موقع الاعتصام من داخل العاصمة ومن المدن الأخرى لتعلن رسالة قوية وواضحة مفادها أن اعتصامهم باق وثورتهم مستمرة بل متصاعدة حتى تحقق مطالبها، متمسكة بروح السلمية المستمدة من إرث سوداني متجذر. وأعداد الموجودين في مكان الاعتصام اليوم أكبر من أي وقت مضى، بل أكبر من اليوم الذي قررت فيه قيادة الجيش الاستجابة لصوت الشارع الهادر في الخرطوم وفي مدن أخرى، وأطاحت رأس النظام عمر البشير. هذا الأمر ينبغي أن يقرأ قراءة صحيحة من الذين يعتقدون أن المماطلة يمكن أن توهن الاعتصام وتحقق لهم تقويض الثورة.
المجلس العسكري قام بخطوات أثارت الغضب وزادت الشكوك حول نياته فيما يتعلق بنقل السلطة إلى حكومة كفاءات مدنية بسلطات واسعة، وتهيئة الأجواء لعملية انتقال سلسة تمهد للإجراءات الأخرى المطلوبة لإنجاح الفترة الانتقالية وتحقيق مطالب الثورة. ولعل أكثر ما أثار الغضب هو كلام قيادات المجلس عن أنهم تلقوا أكثر من مائة رؤية ومبادرة تقدم بها أكثر من مائة حزب، وأنهم يعكفون على دراستها للخروج برؤية تقارب بين كل هذه الطروحات. هذا الأمر اعتبر مؤشراً على توجه للممطالة والتسويف، لأن كثيرا من هذه الأحزاب من تلك التي يسميها السودانيون «أحزاب الفكة» لكثرتها وقلة فائدتها، فبعضها مجرد لافتات بلا قواعد جماهيرية شكلها أصحابها للاسترزاق والمتاجرة بها مع النظام. إلى جانب هذه كانت هناك أحزاب خارجة من رحم النظام إثر الانشقاقات بين إخوة الأمس في الحركة الإسلاموية الذين يعتبرون مسؤولين أيضاً عن مرحلة التمكين وما صاحبها من قمع ومآس. ولم يكتف المجلس العسكري بذلك بل أثار الدهشة بعقده لقاء ضمن هذه المشاورات مع أئمة وعلماء جلهم من الذين ساندوا النظام.
الأدهى من ذلك أن المجلس ساوى بين هذه المجموعات وقوى إعلان الحرية والتغيير المسنودة بالثورة عندما قال إنه سيدرس ما قدمته ضمن قراءته للرؤى المختلفة المقدمة إليه. هذا الموقف الذي قوبل بانتقادات واسعة كان من بين الأسباب التي جعلت قوى الحرية والتغيير تعلق اجتماعاتها مع المجلس العسكري وتصدر بيانها الذي عددت فيه مجموعة العوامل التي اعتبرتها من موجبات القلق ومبررات القول بوجود مماطلة وتسويف.
الحقيقة أن المجلس العسكري لم يكن يحتاج لعقد كل هذه اللقاءات ما دام أن المطلب الذي تتفق عليه أغلبية القوى السياسية الفاعلة، وتدعمه أصوات المعتصمين، هو تشكيل حكومة كفاءات من التكنوقراط. وقد سهل عدد من الأحزاب الفاعلة الأمر بالإعلان رسمياً أنها لن تشارك في الحكومة الانتقالية، وحتى لو لم تنضم إليها أحزاب أخرى فإن المطلب يعبر عن رغبة قوى الثورة.
الكرة الآن في ملعب قوى الحرية والتغيير لكي تسرع بتشكيل حكومتها وتسليمها للمجلس العسكري ثم إعلانها بعد ذلك في موقع الاعتصام. فالمجلس العسكري ليس مطلوباً منه أن يختار أعضاء الحكومة، والثورة التي جاء باسمها وانحاز لترجيحها لم تفوضه لتحديد كيفية تشكيلها أو تطلب منه الموافقة أو الاعتراض على أسماء مرشحيها. قوى الحرية والتغيير هي التي فتحت المجال للمجلس للتدخل عندما ذهبت إليه بمقترحات حول شكل الفترة الانتقالية بدلاً من أن تحمل إليه قائمة جاهزة متفقاً عليها بأسماء الحكومة.
الأرجح في تقديري أن المجلس العسكري لن يعترض على الحكومة؛ لأن ذلك سيضعه في مواجهة مع الشارع المتحفز. المشكلة التي قد تطرأ ستكون في موضوع إعلان مجلس سيادة مدني بتمثيل عسكري، وهو مطلب أساسي من مطالب قوى الحرية والتغيير، والمعالجة تحتاج إلى كثير من الحكمة من الجانبين. وقد يكون الحل في تشكيل مجلس سيادة مدني بتمثيل عسكري من اثنين وربما ثلاثة، إضافة إلى ضم اثنين من العسكريين إلى مجلس حكماء مدني تكون مهمته استشارية. في كل الأحوال إعلان الحكومة الانتقالية يجب ألا يتأخر لكي تتولى تصريف الأمور. هذه الحكومة لكي لا تستنزف طاقاتها وتنصرف عن مهامها الأساسية في انتشال السودان من الهوة التي تردى إليها، يمكن مساندتها بتشكيل مجالس أو لجان متخصصة يناط بها مهام محددة مثل:
– مجلس اقتصادي من الخبراء والمختصين مهمته وضع تصورات وخطط عاجلة لمعالجة الوضع الحرج للاقتصاد السوداني ووضعه في المسار الصحيح.
– لجنة من قانونيين ومصرفيين لملاحقة الأموال المنهوبة واستعادتها لخزينة الدولة.
– لجنة للتحقيق في جرائم القتل والتحقيق والتجاوزات الأمنية لتقديم المتورطين إلى محاكمات في أسرع وقت.
– لجنة من الكفاءات القانونية لإصلاح القضاء.
– لجنة من المختصين لإصلاح جهاز الأمن والاستخبارات وإعادة توجيهه لوظيفته الأساسية بعدما تحول إلى جهاز للقمع الدموي في عهد نظام الحركة الإسلاموية.
– لجنة لإصلاح الإعلام وتنقيته مما شابه في ثلاثين عاماً من حكم «الإنقاذ»، ووضع خطة لتنظيم عمله في مناخ يضمن حرية الإعلام من دون التجاوزات التي صاحبت فترة الديمقراطية الثالثة.
– لجنة لمتابعة تفكيك الدولة العميقة والتنسيق مع الجهات واللجان الأخرى.
– لجنة من المختصين والعسكريين لتفكيك كتائب الظل وميليشيات الحركة الإسلاموية ومصادرة أسلحتها وممتلكاتها وتقديم أسماء المتورطين في جرائم إلى لجنة التحقيق في الجرائم والتجاوزات الأمنية.
في كل الأحوال الأوضاع في السودان لا تحتمل التأخير الحاصل، لأن الفراغ سيخلق المزيد من التعقيدات التي لا يتمناها أحد إلا إذا كان ممن لا يريدون لهذه الثورة أن تحقق غاياتها. والخطوة الأولى المطلوبة هي من قوى الحرية والتغيير، والحكمة مطلوبة من كل الأطراف التي يتوجب عليها أن تقرأ الشارع جيداً ومزاج الملايين المعتصمين.
218 4 دقائق