بين اتهام وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري سلطات بغداد في عام 2013 بـ “تسهيل مرور شحنات الأسلحة الإيرانية إلى سورية”، وبين سلسلة اتهامات وجهها وزير الخارجية الحالي مايكل بومبيو إلى بغداد تتعلّق بنفوذ الحرس الثوري والموقف العراقي من العقوبات، وبالتالي رفض تمديد الاستثناء لاستيراد الغاز الايراني، مرّت سنوات من الاضطرابات والتحديات، أضاع خلالها العراق، ليس قدرته على الإمساك بالعصا من منتصفها في سياسته الخارجية كما طالبه الجميع، بل أن نقطة المنتصف ذاتها لم تعد واضحة اليوم كما كانت في ذلك الوقت.
ليس جديداً القول أن العراق ما زال في حاجة إلى الغاز الإيراني لتشغيل عدد من أهم محطاته الكهربائية، كما أنه يحتاج إلى استيراد الكهرباء من إيران، علماً أنه لا يمكن تقليص حجم العلاقات والتبادل التجاري بين البلدين ووقفه بسهولة. من هنا، سيكون العراق خصوصاً في الشهور المقبلة المتضرر الأكبر من العقوبات، مع الأخذ في الحسبان أن القيادات السياسية العراقية لم تتخذ أي إجراءات لتفادي أزمة الطاقة المتوقعة واكتفت بمحاولة تعقيد الموقف لإجبار واشنطن على استثنائها من تطبيق العقوبات. مع كل ذلك، كان الاستثناء ممكناً ومبرراً، لكنه ارتبط على الدوام بقدرة بغداد على تقديم أدلّة واقعية ومستمرة على سياسة الحياد تجاه الصراع المحتدم في المنطقة، ليس اليوم، وليس عندما اقتنعت إيران بأن عليها منح العراق مساحة لإثبات مصداقيته وحياده، بل في السنوات الماضية التي فشلت فيها الحكومات العراقية المتعاقبة في ترسيخ مبادئ علاقات خارجية متوازنة وبعيدة من الاستقطابات والمحاور، تجبر المجتمع الدولي على التعامل مع قضاياها وأزماتها الداخلية بمسؤولية.
أمر محزن حقاً، أن يدفع الشعب العراقي ضرائب المغامرات الايرانية في المنطقة، وسوء فهم الخصوصية العراقية وقوانين التاريخ وثوابته لدى قادة التصعيد في طهران وواشنطن على حد سواء. لكن المحزن أكثر، هو أن يدفع شعبنا ضريبة ضعف وانعدام رؤية وقلّة وطنية طيف واسع من طبقته السياسية، التي انشغلت خلال الشهور الماضية بمعارك المناصب والمكاسب وتوزيع عقود الدولة، بدل الانتباه إلى ضرورة وضع استراتيجيا ناجعة تحمي البلد من آثار التصعيد الأميركي – الإيراني.
لا تُشترى الحكمة من الأسواق، ولم يكن قادة المعادلات الرياضية في مفوضية الانتخابات، التي فُصِّلت على مقاسهم، معنيين حتى بشراء الحكمة عندما تقترب المخاطر. ولهذا، لم يعد مبرراً لوم إيران لمحاولتها توريط العراق بمصير العقوبات عليها خلال الشهور الماضية، ولا لوم الولايات المتحدة على تخليها عن التزاماتها التاريخية جراء الوضع الملتبس الذي يقف فيه العراق اليوم، بقدر توجيه اللوم إلى القيادات العراقية التي تحاول “التذاكي” على لعبة دولية معقدة ومحترفة فشل سابقوهم في التذاكي عليها في تسعينات القرن الماضي وساهموا في إرسال العراق إلى مصير عام 2003.
لم يعد بإمكان أحد في العراق اليوم تمييز نقطة المنتصف في عصا العلاقات الخارجية، بل بات مشكوكاً في أن يكون بإمكان طرف الإمساك بتلك العصا من منتصفها، إذا عثر عليها، وصار لزاماً أن نتجه إلى مصارحة داخلية عراقية حول جملة ملفات تخص منع الدفع بالعراق إلى أزمات مكلفة جديدة بعدما استنفدت “داعش” من شبابنا وطاقة عقولنا ما استنفدت.
ملف معالجة آثار الحرب على “داعش” والتعامل بشفافية مع عروض الإعمار وإدارة المناطق المحررة وتحصينها من الاختراقات، أولوية لا يجب التغاضي عنها، وهو ملف مقترن بإعادة فهم الحكومة الحالية لنفسها ووصفها، وإيقاف الغموض غير المنتج في خلفياتها السياسية وخريطة اولوياتها الإصلاحية وجديتها في إبعاد العراق بالكامل عن الاستقطابات الاقليمية، مثلما هو مرتبط بطريقة التعاطي مع الخطوات الجريئة والقاسية التي طال انتظارها لمعالجة الخلل المزمن في النظام الإداري للدولة الذي قاد ويقود إلى مزيد من الفساد، ومن ذلك محاولة بناء شبكة جديدة من منظومات التحاصص الحزبي تحت غطاء “المناصب الخاصة”.
إن التخلص من فخّ السلبية والتغاضي والتهور والتحذلق في إدارة شؤون العراق، لن يكون عبر استعارة الحلول الحزبية الفاشلة التي جربت مراراً وتكراراً وقادت إلى ماقادت إليه، بل من رؤية وطنية واضحة وشجاعة، تضع مصالح الشعب العراقي في المقدمة، وتبتكر استراتيجيات معلنة لمواجهة التحديات داخلياً وخارجياً. أن نهضة الأمم ليست اقتراحاً لأفراد أو أحزاب تحركهم مشاعر ودوافع وانحيازات، بل خطط محكمة ورؤية ثاقبة تنظر إلى الغد وهي تحاول معالجة أزمات اليوم.