بداخل كل منا صندوق أسود مغلق بإحكام بعضنا يقذف بداخله أسرار وحكايات لا يمكن الإفصاح عنها، إما لخطورتها على حياته وعلى أصحابه بما تضمنته من معلومات تصنف بشديدة الخطورة، وإذاعتها تعني الخضوع لقوانين وأحكام ربما أدت لإنهاء حياة صاحبها.. وإما لأن الشخص نفسه وضع داخل صندوقه الأسود حقيقته التي يجهلها البشر، ويجب أن تبقى بعيداً عن الأعين.
الصندوق الأسود بداخلنا حماية مؤقتة لأنه في النهاية له سعة لا يتحمل أكثر منها مثل «الميموري » إذا اكتمل بدأت عليه حالة عدم الاستقرار، وتضارب المعلومات، وربما التعرض من كثرة الضغط للتلف والفقدان.
بداية لماذا الصندوق الأسود بداخلنا؟ ولماذا لا نتعامل بوجه واحد فقط، وحقيقة واحدة، ما نقوله في السر لا نجد غضاضة من الإفصاح عنه في العلن؟ لماذا لا تفعل ما تقول وتقول ما تفعل؟.. فهذه الحقيقة المؤلمة تكمن البداية والنهاية في آن واحد، لأننا في الحقيقة نقول ما نتمنى، لكننا نفعل ما نؤمن به.
نظرة بسيطة على السوشيال ميديا هذا العالم المثالي ظاهريا فقط.. الجميع يتحول إلى واعظ، ليس ذلك فحسب، بل شعراء ومتسامحين، وأصحاب قلوب كبيرة، وبداخل كلاً منهم مساحات خضراء تكفي لإزالة التلوث من العالم أجمع، لكن الحقيقة أن كل هذا كلام في الهواء، شعارات فقط، وأحلام وردية عبر كلمات منمقة الهدف منها تغيير الحالة، والحصول على إعجاب الآخرين والإشادة والثناء.. لكن الحقيقة أن الشخص نفسه الذي نسخ ما كتب، أو كتب ما لم يكن به مقتنعاً، يفتقد إلى ما كتب، إنه فقط تمنى وعبر عن حالة مستحيلة بالنسبة له، لكنها لحظة انقسام تفصل بين واقعنا المرير وأمنياتنا في الحياة.
اللقاء الأول بين الناس دائما يكون وردياً، بصرف النظر أنه بين رجل ورجل، أو رجل وامرأة، أو بين امرأتان.. المهم أنه يكون اللقاء الأفضل في عمر العلاقة في الغالب لأن كل واحد من الطرفان يحاول جاهداً أن يخرج أفضل ما عنده ويخفي كل ما يسيئه داخل صندوقه الأسود، متيقظاً ألا تتناثر منه شظايا أو تفوح رائحته الخبيثة، وعندما يبدأ الاحتكاك الحقيقي في المعاملة والمواقف تتغير وجهات النظر الأولية كثيراً وربما انتهت العلاقة إلى أبد الآبدين.
وطبعا النماذج في حياة كل منا كثيرة ومتعددة، وفي كل عام تقريباً نُسقط عامدين من شجرة معارفنا وحتى أقاربنا الكثير من الأوراق السرطانية التي باتت تشكل خطراً كبيراً ليس فقط على نفسها، وإنما على كل من تشترك معهم حتى في تنفس الهواء.
الحقيقة أننا كأولياء أمور نتحمل عبئاً كبيراً في صنع ذلك الصندوق الأسود بداخل أولادنا منذ سنوات عمرهم الأولي، حيث نشير إليهم بالكذب للخروج من المآزق و المواقف المحرجة، ونطلب منهم أن يكذبوا لينجوا أنفسهم من عقاب الأخرين، وأن يكذبوا على المدرس هربا من العقاب، وتتحول الكذبة البيضاء من وجهة نظرنا إلى مصيبة وكارثة يتفنن الطفل فيها ويجيدها حتى يأتي الوقت الذي يستخدمها ضد والديه، ومن هنا يبدأ الصندوق الأسود لديه في فتح أبوابه ليتم إخفاء ما يسوءه بداخله، لأننا بدلاً من أن نربيهم على الصراحة و الصدق، فتحنا أمام أعينهم وعقولهم أبواب الملاوعة والكذب والمواربة والخداع، وبالتالي ساهمنا بحسن قصد ونية في الإساءة إلى فلذات أكبادنا وخاصة عندما نضحك على ما يفعلونه ونتباهي به على أنه معجزات طفولية، وتكبر الكارثة ويكبر الصندوق الأسود بداخل أطفالنا ويصاحبهم في المدرسة والجامعة ومكان العمل، ومن ثم تكبر الكارثة وتتعدي نتائجها السلبية الشخص والأشخاص والمجتمع وتهدد وطنا بأكمله.
باختصار .. الصندوق الأسود بداخلنا صناعة محلية 100% ومدلولاته خطيرة ونتائجه كارثية.. لذا فإننا مطالبون كلاً في موقعه العودة إلى الحق وزرع الصدق والشفافية في قلوبنا أولاً ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم إعادة زرع نوازع الخير في قلوب أبناءنا ومن نعول.. أما دولنا العربية ذات الصناديق السوداء التي تفوق في ثقلها جبال الأرض وزناً فنقول لهم إرحمونا يرحمكم الله!!
وأما وزارات التربية وغيرها فهم مطالبون بإعادة التربية للمدارس لتقوم بدورها المساند لأولياء الأمور.. لابد أن ندشن حملة عربية قومية من المحيط إلى الخليج تهدف إلى إغلاق الصناديق السوداء بداخلنا واستبدالها بالحب والود والإخاء، والأهم الصدق.. أنها دعوة للعودة إلى تعاليم الأديان السمحة التي تنادي بالعالم المثالي والمدينة الفاضلة.
نبضة قلب: في صفاء عينيك يرسو مركبي وتهنأ حياتي في مملكة الشفافية بلا غش ولا خداع.