ليسَ أبلغ ولا أعمق من حادثةِ الإسراء والمعراجِ رسالةً من الله عزَّ وجلَّ إلى العالمين كافةً وإلى العبرانيين خاصةً، بأن القدس عربية الهوية والانتماء، وإسلامية الحضارة والتراث، يسكنها العربُ المسلمون والمسيحيون معاً، يشكلون هويتها، ويصبغون أرضها، ويصنعون تاريخها، ويحمون حدودها، ويحفظون مقدساتها، ويتحدون في مواجهة الخطوب معاً، ويمنعون اليهود من دخولها والعيش فيها، ويصدونهم إن اعتدوا عليها أو حاولوا الإفساد فيها، وقد نعموا بالعيش فيها قروناً لولا الطامعين اليهود والمعتدين الإسرائيليين، الذين أفسدوا عيشهم، وسمموا حياتهم، ودنسوا مقدساتهم، وتآمروا عليهم لتخريبها وهدمها.
في ذكرى الإسراء والمعراج تئنُ القدس بوجعٍ ويشكو أقصاها بألمٍ من ظلم الاحتلال وجور المعتدين، فقد بغى الإسرائيليون في أرضنا وتغولوا علينا، ودنسوا مسجدنا وانتهكوا كرامتنا، ويواصلون كل يومٍ اعتداءاتهم على مقدساتنا فيقتحمون الحرم، ويتوعدون بهدمه وتدميره، وبناء هيكلهم المزعوم مكانه، ويجدون من يعينهم ويقف معهم، ويؤيدهم في ظلمهم ويناصرهم.
وتشكو القدس بحزنٍ وأسى إلى الله عز وجل تخاذل ولاة الأمر العرب وقادة المسلمين، إذ تقف أغلب أنظمتهم صامتةً وتتفرج، أو تتآمر مع العدو وتشترك معه في المخطط، وتسكت عن جرائمه وتقبل بسياسته، وتعترف له بشرعية ما اغتصب أو ادعى، وترى أن له في القدس حقاً وفي أرض الأقصى مكاناً، ممالأةً للإدارة الأمريكية أو خوفاً منها، وتطبيعاً مع الكيان الصهيوني حباً فيه وولاءً له، وشكراً له وأملاً فيه.
مدينة القدس التي تضم بين لابتيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وما يليهما من المقدسات الدينية، وفلسطين كلها بما حوت من مدنٍ وبلداتٍ عريقةٍ يسكنها مسلمون ومسيحيون، أرضٌ مقدسةٌ وديارٌ مباركةٌ، خلدها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وعظمها في قرآنه بالإسراء إليها والمعراج منها، لا يملك قرارها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولا غيره من القادة والزعماء، أياً كانت هويتهم وقوميتهم، وديانتهم وجنسيتهم، ولا يفاوض أو يساوم عليها أحدٌ بنية التفريط والتنازل أو البيع والمقايضة، إذ لا تشبهها أرضٌ ولا تماثلها بلادٌ، والتاريخ يشهد دوماً أنها كانت درة جبين العرب والمسلمين، وشامتهم الغراء وأم مدائنهم العصماء.
القدس ليست عقاراً أو داراً، أو حديقةً وبستاناً، أو باحةً وفناءً، أو مبنىً وعمارة، أو أرضاً وفلاةً، أو غير ذلك مما يظن الرئيس الأمريكي ترامب أنه بما تملك بلاده من قوة، وبما تحوز عليه من أسلحةٍ فتاكةٍ، أو بما تتمتع به من نفوذٍ واسعٍ وتأثيرٍ كبيرٍ، يستطيع أن يهبها لمن يشاء، وأن ينزع ملكها عمن يشاء، ويدخل إليها من الغرباء من يريد، ويطرد منها أصحابها الشرعيين وملاكها الأصليين، وهو رجل الأعمال التاجر، الذي يظن أن كل أرضٍ تباعُ، وكل عقارٍ له ثمن، وأن القدس من جنس العقارات يبيعها أهلها لمن يدفع أكثر، ويتخلى عنها أصحابها لمن هو أقوى وأقدر.
الإسرائيليون فرحون في هذه الأيام التي ينبغي أن تكون أيام عيدٍ وفرحٍ عندنا، إذ نحن من يحتفي ويحتفل بذكرى الإسراء والمعراج، ولكننا نراهم في حالٍ أفضل منا، إذ أنهم يرقصون ويضحكون، ويبتهجون ويلعبون، ويظهرون فرحهم ويبدون سعادتهم، فقد تحقق لهم في القدس الكثير ويتوقعون الأكثر، وباتوا يزاحمون المسلمين في أقصاهم، ويضيقون عليهم مصلاهم، وينتزعون منهم دروبهم وبواباتهم، وأخذوا يتهيأون ليوم عودتهم بحجارتهم الموعودة، ويستعدون بثيابهم الخاصة، ويبنون كُنُسَهم المبشرة بيوم استعادتهم لهيكلهم، ولا يظهر عليهم أنهم يخشون هبةَ العرب أو صحوة المسلمين، إذ لا يبدو في الأفق القريب أو البعيد ما يهدد حلمهم أو يمزق ملكهم، فالزمان زمانهم والبشائر تزداد بين أيديهم، فلماذا لا يفرحون وبالعرب والمسلمين لا يشمتون.
أُسريَ برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القدس وهو ضعيفٌ محاربٌ، محاصرٌ ومُضيق عليه، يُكَذبُ ويُعتدى على أصحابه، ويُساء إليه ويُعذب أتباعه، ويُتآمر عليه ويخططون ضده، ولكنه رغم الضعف وقلة الحيلة وهوانه على قريش، ورغم قلة الأتباع وكثرة الأعداء، حيث كان أعداؤه أقوياء متماسكين، وأشداء متحدين، إلا أنه صدح في وجه قريش ووجوههم، وفي حضرة زعمائهم وعلى مسامع كبرائهم بما لا يتوقعون، وقال ما لايستوعبون، وتحدث بما لا يتخيلون، إذ ربط بين الحرمين، وجمع بين المسجدين، وكأنه يقول أنه لا تفريط في المقدسات ولو كنا ضعافاً، ولا تخلي عن معتقداتنا ولو كنا مضهدين، فلا يعتذرن أحدٌ بالضعف أو العجز، ولا بقلة الحيلة ونقص الذخيرة، ولا يبرر أحدٌ لنفسه الخور والخوف والاستخذاء والتخاذل بقوة العدو وتفوقه، وإمكانياته وقدراته، وحلفائه وأعوانه، إذ لن يرحم التاريخ ضعيفاً ولن يغفر الله لأحدٍ عجزه وتقصيره.
لا يفرط في أرضِ الإسراءِ مؤمنٌ به، ولا يتخلى عن حائطِ البراقِ ومنطلقِ المعراجِ مسلمٌ، فهذه أرضٌ قد خَطَ اللهُ عزَّ وجلَّ حدودها، ورسم هويتها، وحدد انتماءها، وقدَّسَ ترابها، وطهر أهلها، وبارك حولها، وجعلها خيرَ أرضٍ وأعظم رباطٍ، ورفع قدرَ من دافع عنها، وأعز من رابط فيها وقاتل من أجلها، وخلد من طهرها وفتحها، وحفظ ذكر من حررها واستنقذها، ولعن من فرط فيها، وقاتل من فاوض عليها وتنازل عنها، وتوعد بالهلاك من خانها وتآمر عليها، وأذل في الدنيا والآخرة من تخلى عنها وقصر في حمايتها، وألبسه لباس البؤس والشقاء، وأذاقه المر والهوان جزاءً نكالاً بما كسبت يداه.
فهذه أرضنا العربية، وقدسنا المطهرة، ومدينتنا الخالصة، وعاصمة دولتنا العتيدة فلسطين، وعروس مدائننا العظيمة أجمعين، فطوبى لمن تمسك بها وحافظ عليها وضحى من أجلها، وهنيئاً لمن سكن فيها ورابط دفاعاً عنها وحمايةً لها، ولن تسقط بإذن الله مدينتنا، ولن نفقد مسجدنا، ولن نخسر وجودنا، إذ سيبقى الإسراء والمعراج شهادةً من الله عز وجل خالدة إلى يوم القيامة على هوية الأرض المباركة، وملكية القدس ومرجعية الأقصى.