على رغم كل مساوئ وكوارث وسلبيات «الربيع العربي»، إلا أن من بين ميزاته القليلة تلك الفضائح التي طالت هؤلاء الذين ربطوا مصائرهم بجهات أجنبية ظلّت سنوات طويلة تعمل على تفتيت الوطن العربي وضرب «الأسافين» بين الدول العربية وتقديم العون والمساعدة والدعم إلى كل محتل لبلاد العرب أو كاره للشعوب العربية أو سارق لموارد الأمة وخزائنها.
نعم، فضح «الربيع العربي» رموزاً سياسية ووجوهاً إعلامية وناشطين وحقوقيين، وشخصيات عامة ظلت في نظر الناس، من دعاة الحريات ومروجي الديموقراطيات ومسوقي العدالة، وظهر أنهم مجرد أدوات تتحرك بحسب رغبات وسياسات وأهداف هذه الدولة أو ذلك الجهاز الاستخباراتي أو تلك المنظمة المشبوهة، وتبين للناس أن الكلام الوردي والمواقف البطولية والهتافات الحنجورية ما هي إلا وسائل للنصب و«عدة الشُغل» لممارسة الخداع والتزوير والتزييف، ودفعِ الشعوب إلى تخريب مجتمعاتها بدعوى إزاحة الأنظمة، ونشر الفوضى تحت مسمى تحقيق الوحدة، وحرق مؤسسات وتخريب البنية الأساسية على أساس أن ذلك هو بداية الطريق لتحرير فلسطين! على مدى التاريخ ظلت مسألة الاستقواء بالخارج أنموذجاً اتبعه سياسيون سعوا إلى الوصول إلى السلطة، وعجزوا عن تحقيق أمنياتهم، ورأوا أنهم في حاجة إلى حليف يقدم لهم العون والمساعدة مادياً ومعنوياً ولوجستياً، لكن بقيت تلك النماذج تعمل في العلن، وتقدم مبرراتها إلى عموم الناس، وتدّعي أن هذا الحليف، أو ذاك، لا أهداف له سوى نصرة المظلومين وتحرير المعتقلين وتحقيق النهضة للشعوب المقهورة.
لم يكن هؤلاء يخفون ولعهم بنماذج غربية أو شرقية، وقناعاتهم بأن بلادهم لن تنهض إلا إذا تدخل هذا الطرف، أو ذاك. أما هؤلاء المعارضون أو تلك الكائنات التي أفرزها «الربيع العربي» فحملت سمات خاصة بها، إذ ظهر أنها سعت وبشدة إلى الارتماء في أحضان الأطراف التي كانوا يحرضون الشعوب ضدها، ويدّعون أنها سبب خراب الأمة وفقرها!
حين تبحث في أدبيات «جماعة الإخوان» مثلاً، ستجد آلاف الخطب والبيانات والهتافات التي تحرض الشعوب ضد الولايات المتحدة والدول الغربية، وتستنكر على الحكام العلاقات الطيبة أو المتوازنة مع البيت الأبيض والعواصم الأوروبية، وتتهمهم بالخضوع وربما العمالة، وحين اقترب حلم «الإخوان» في الوصول إلى السلطة في مصر من التحقق، ظهر أن أول جهة حرص «الإخوان» على ربط جماعتهم بها كانت كل الأطراف داخل الولايات الأميركية ذاتها من دون استثناء، بدءاً من الرئيس ومروراً بالمؤسسات الرسمية الأميركية والمنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام المرتبطة بالمنظمات الصهيونية ذات القناع الحقوقي أو الإعلامي أو الخدمي.
لم ينس الناس بعد أن «الإخوان» اتهموا الرئيس السابق حسني مبارك بمهادنة الأميركان طوال فترة حكمه، ثم اكتشفوا أن رموز الجماعة فتحوا خطوط اتصال سرية مع الأميركان أنفسهم، إلى درجة أنها أقنعوا جهات نافذة هناك بأن حكم «الإخوان» لأي بلد عربي فيه فوائد للولايات المتحدة، وأنه السبيل الأفضل لكبح جماح الجماعات الإرهابية الأخرى كـ«القاعدة» و«داعش».
وبعدما ضرب «الربيع العربي» المنطقة صارت صور قادة «الإخوان» ومشاهير «الجماعة» في أروقة الخارجية الأميركية أو الكونجرس أو مبنى الاستخبارات من المشاهد العادية! أما هؤلاء الناشطون أو الحقوقيون أو الإعلاميون أو الفنانون الذين غمروا الشعوب بمشاهد تعكس عداءهم للسياسات الغربية، ثم صاروا يفخرون الآن بتسكعهم في دروب المؤسسات الأميركية والغربية الأخرى، فلم يدركوا أن الشعوب العربية التي تعرضت لأضرار بالغة بفعل كوارث «الربيع العربي» فطِنت إلى اللعبة، وصارت أكثر خبرة في تصنيف وفرز وفهم من يعمل لصالح وطنه ومن اختار طريق «الشذوذ السياسي» للخروج من دور المعارضة إلى ممارسة أدوار العملاء والأعداء والمخربين.
نعم، صارت الشعوب أكثر إدراكاً للفرق بين علاقات رسمية تفرضها ظروف منطقية وموضوعية تربط دولهم بحكومات دول غربية وبين هؤلاء الذين يتسللون ويتوسلون ويتسولون علاقات خارج الإطار الرسمي، ليحققوا أهدافهم الشخصية، أو لينصروا جماعاتهم أو تنظيماتهم، ولأن تعريف «الشذوذ» يقوم على «الخروج عن القاعدة والمألوف» فإن «الشذوذ السياسي» ليس مجرد التحرر أو الجهر بالأفكار السياسية المعارضة، أو حتى الحدة في مفردات نقد الحكم أو سياساته، وإنما يصل إلى حد محاولة إقناع الناس بالهرولة نحو من ظل يسقيهم السم، ويقتلهم ليشفوا من داء الأنفلونزا!