ليس عبثاً ولا مصادفةً أن ينطلق من غزة صاروخان مدويان، يوصفان وفق تصنيفات المقاومة بأنهما بعيدا المدى، إذ يتجاوز مداهما المائة وعشرين كيلو متراً، فيسقطان في عمق الأرض الفلسطينية، ويصلان إلى شمال مدينة تل أبيب، وتعجز القبة الحديدية الإسرائيلية عن اكتشافهما والتصدي لهما، ويجتهد قادة المنظومات المضادة للصواريخ في تبرير أسباب عدم التصدي لهما وإسقاطهما، وتورد دفاعاً عن نفسها أراءً كثيرة وتفسيراتٍ عديدةً، لكنها جمعيها لا ترقى لستر عورتهم، ولا لجبر كسرهم أو تبرير فشلهم.
كما ليس من قبيل المصادفة، ولا هو من فعل البرق والصاعقة، أن ينفلت صاروخٌ آخر من عقاله، وينطلق هذه المرة من مدينة رفح في جنوب القطاع، ليقطع مسافةً طويلة، تفوق ما قطعها الصاروخان السابقان، ويسقط أيضاً في منطقةٍ سكنيةٍ شمال مدينة تل أبيب، لكنه هذه المرة يدمر مسكناً، ويقوض بناءً، ويلحق دماراً كبيراً في مكان ومحيط سقوطه، ويحرج قادة الكيان أكثر، ويثير رعباً في أوساط مستوطنيه، ويضع الحكومة ورئيسها في موقفٍ حرجٍ، لا يقوى أحدٌ على استنقاذهم مما هم فيه.
ليس خطأً وليس مصادفةً، ولا هو خروجٌ عن الإجماع أو فعلُ مجموعةٍ مارقةٍ مخالفةٍ للقرارِ، وليس برقاً ولا رعداً، ولا هو بسبب الطقس أو الصاعقة، إنما هم ثلاثتهم قرارٌ ومنهجٌ، ورسالةٌ واضحةٌ للعدو الإسرائيلي وحليفته الولايات المتحدة الأمريكية، لا يخطئان قراءتها، ولا يدعيان عدم فهمها، وهي رسالة حقٍ وجبت في توقيتها ومكانها، وظرفها وحالها، فاستحقها المجرمان ووعيها بدقةٍ العدوان.
فالصاروخان الأولان قد انطلقا إثر تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول موضوع هضبة الجولان، وتأكيده على حق إسرائيل في السيادة عليها، وبسط قانونها على أرضها وسكانها، وأنه قد آن الأوان للعالم أن يعترف بالسيادة الإسرائيلية عليها، وبحاجته الأمنية لبقائه فيها وسيطرته عليها، فجاء الصاروخان الفلسطينيان من غزة المحاصرة، ليقولا للإدارة الأمريكية في وقتٍ صمتت فيه المنصات العربية أو تواطئت، وخرست المنابر الرسمية أو خافت، أنها ضلت الطريق وأخطأت القرار، وتصرفت فيما لا تملك لمن لا يستحق، فالجولان أرضٌ سوريةٌ عربيةٌ، احتلها الإسرائيليون بالقوة عام 1967، وأعلنوا ضمها لكيانهم في العام 1981، ولكن أحداً لم يعترف بسلخها، وشعبها لم يقبل بالواقع الذي فرض عليها وعليهم، وأصروا أنهم مواطنون سوريون، عربٌ أقحاحٌ، يتمسكون بهويتهم، ويصرون على عروبتهم، ويتطلعون إلى يوم عودتهم وهضبتهم إلى حضن وطنهم الأم سوريا.
أما الصاروخ الثالث المدوي المرعب المزلزل، الذي انطلق من جنوب القطاع في وقتٍ التأم فيه جمع الأعداء، فقد جاء رداً على توقيع ترامب على صك الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، ورسالةً عربيةً مقاومةً للمحتفين بالقرار في البيت الأبيض بواشنطن، أن للجولان رجالاً في سوريا كانوا أو في جنوبها القديم سكنوا، يدافعون عنها ويقاتلون من أجلها، ولعله بلهبه المندفع وصاعقه المفجر وحشوته المدمرة، استطاع أن يلطم وجه ترامب، وأن يستل الفرحة من قلب نتنياهو، وينتزع البسمة من على شفتيهما معاً، ويطفئ بريق النصر في عيونهما، ونشوة الظفر في قلوبهما، ويقول لهما ولكل من آمن بخطوتهما وفرح بموقف وعنجهية الرئيس الأمريكي ترامب، أنكم تخطئون إذ تظنون أن الجولان باتت وحيدة، مبتورةً عن الأصل ومقطوعةً عن الوطن، المشغول بجراحه، والمهموم بأحزانه وآلامه.
صواريخ المقاومة الثلاثة التي انطلقت من غزة أوضح رسالة وأبلغ إشارة، أن الجبهات العربية المحتلة أصبحت جبهاتٌ واحدة، يربطها العدو باحتلاله، ويجمعها الشعب بمقاومته، وتصهرها الحروب معاً في بوتقة النضال، ويوحدها العدو بعدوانه عليها، فلن يتمكن بعد اليوم من التفرد ببعضها، وسيجد نفسه إن غامر واعتدى على أحدها، بأن النار من كل مكانٍ تندلعُ، وبالأرض حوله وتحت قدميه تميد، وفوهات اللهب تنفتح عليه من كل سماء، وستكون فلسطين كلها من شمالها إلى جنوبها، على موعدٍ طال انتظاره وعز وقوعه، مع جيوشٍ عربيةٍ من المقاومين تندفع، وصواريخ في السماء من كل الجبهات تنطلق، وسيعيا العدو عن الصد، وسيعجز عن الرد، وستتكسر على ضلوعه السيوف والنصال.
لعل الإسرائيليون يدركون تماماً أن صواريخ المقاومة التي انطلقت من غزة، قد أرست قواعد إستراتيجية جديدة، ووضعت الأسس لمرحلةٍ من المقاومة مختلفة، ورسمت الخطوط للمعركة القادمة والمواجهة الجديدة، وأعلنت بالفعل لا بالقول، وبالنار لا بالكلمات، أن لبنان والجولان وفلسطين جبهةٌ واحدةٌ، وأنهم وكل أرضٍ عربيةٍ يحتلها العدو الإسرائيلي، ستنهض وستنطلق، وستدخل المعركة وستشترك، وستتعاضد وستتضامن، وسيرى العدو من كلٍ منها ما يذهله ويصعقه، وسيجد نفسه منقسماً بين الجبهات، ومشتتاً في الميدان، وضائعاً في ساحات القتال، فهو في مواجهة أجيالٍ من المقاومة أقسمت على النصر، وتعاهدت على الظفر، وأدركت أن النصر على العدو لا يكون بغير وحدة الجبهات وفتح الحدود وانسياح المقاتلين.
إن غزة التي تحمل كتائبٌ مقاتلةٌ فيها اسم عز الدين القسام، الشيخ المقاوم ابن بلدة جبلة السورية، الذي جاء إلى فلسطين مع رجاله إليها مقاوماً، فقاتل الإنجليز وتصدى للعصابات الصهيونية، إلى أن لقي ربه شهيداً في معركةٍ نحفظها وتاريخٍ لا ننساه، تقول اليوم لسوريا التي كانت يوماً وفلسطين قطعةً من جنوبه، أننا جنودٌ في معركة استعادة الجولان، وأننا رجالٌ في مقارعة الأمريكان ومقاتلة العدوان، حتى تعود الجولان وفلسطين حرة، فهذا وعدٌ يقطعه المقاومون، يخطونه بدمائهم، ويرسمونه بأرواحهم، يعاهدون فيه الله عز وجل وأنفسهم، أن الجولان كفلسطين أرض العرب، إرث الأجداد وحق الأجيال، لا يشطبها احتلالٌ ولا يسلخها قرارٌ، ولا تغربها السنون، ولا تشقيها الظنون، ولا ينزع منا ملكيتها أهوجٌ أو مجنونٌ.