الكراهية بين أتباع الأديان وأبناء القوميات ليست جديدة، ولم تكن يوماً غائبة عن تاريخ البشرية، لكنها فقط تتفاوت في الحدّة والتأجيج من حين لآخر بحسب عوامل متغيرة ومؤثرة، من أهمها العامل الاقتصادي، وإن بدا متخفيّاً خلف أسباب وتفسيرات ثقافية!
ونحن نشعر، عند الغضب الشديد أو الفرح الشديد، أن داخل كل إنسان منا يوجد كائن همجي كامن، يُطلّ برأسه عندما تحتدّ مشاعرنا، وتتفاوت حجم إطلالته وصخبه بحسب تربية وتنشئة الإنسان الحاضن لهذا الكائن. ويمكننا أن نوظف هنا تشبيه ليفي شتراوس، البدائية والتمدن بـ (النيء والمطبوخ)، في أن نقول بأن الإنسان هو لحمة مطبوخة على نار الحضارات المتعاقبة، لكننا عندما نتعمق بالسكين داخل هذه اللحمة سنجد لحماً نيئاً بالداخل لم تبلغه عملية الطبخ. نحن نختلف من إنسان إلى آخر على قدر ما فينا من لحم نيء غير مطبوخ، ومهما تتعرض اللحمة من طبخ فسنجد داخلها بقايا من لحم نيء أو غير ناضج، ما لم يتم إحراقها بالكلية… إحراق الإنسان من بشريته!
يؤكد هوبز أن «السلطة هي الشيء الوحيد الذي يقف بيننا وبين العودة للهمجية». أتفق مع هذا التحذير، ولكن في المقابل أؤكد أن السلطة ذاتها (بمعنى التسلّط هنا) هي التي تفتح المجال لارتكاب الهمجية من جديد… همجية القوي ضد الضعيف.
والدولة الحديثة لم تستطع، لا عبر العلمانية القضاء على الكراهية الدينية، ولا عبر العولمة القضاء على الكراهية القومية. لكن مستوى الكراهية العالمية تصاعد كثيراً وسريعاً بعد تفجيرات «سبتمبر» الإرهابية، ما حدا بالإعلام الأميركي أن يطلق حينذاك السؤال الكبير: لماذا يكرهوننا؟ وعلى رغم مرور سنوات طويلة على السؤال فإن «نتائج الاختبار» لم تُعلَن بعد!
نحن أيضاً أصبح لدينا سؤالنا: لماذا يخافوننا (إسلاموفوبيا)؟ وقد تصاعد السؤال من جديد بعد الاعتداء الإرهابي على المصلّين في مسجدَيْ نيوزيلاندا، ولأنه (سؤالنا) فسننشغل بمناقشة سريعة لبعض تفاصيله هنا، مع استعادة لبعض ما سبق أن قلته في هذا السياق أثناء مناقشة ملتقى أسبار النخبوي في ندوته الافتراضية هذا الأسبوع عن ثقافة الكراهية.
تتنوع الجهات والتكتلات التي تقف وراء تأجيج «الإسلاموفوبيا»، ويبلغ هذا التنوع إلى درجة وجود مسلمين يسهمون في شكل مؤثر وبالغ في نشر وتعزيز هذه الموجة الخوفية.
سنبدأ في الجانب الغربي، حيث تنطلق فكرة تعزيز «الإسلاموفوبي» من ثلاث منطلقات أساسية:
الأول: القلق من «أسلمة» العالم، وهو هاجس يبدو مقلقاً لدى عدد من مثقفي واستراتيجيي أوروبا، لم يعد خافياً أو مستتراً كما كان من قبل، إذ أصبح الكثير منهم يعلن أن تزايد أعداد المسلمين في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط هو تهديد واضح للتوازن الديموغرافي مع دول الضفة الشمالية منه.
من جانب آخر، فإن باحثين يسمون ما يجري بأنه ليس «إسلاموفوبيا»، بل هو «دينفوبيا»، وأن هذه الفئة تنطلق في خوفها من «الأسلمة» ليس لأجل خدمة دين آخر بديل عن الإسلام، بل لأجل عالم خالٍ من الأديان.
الثاني: تداخل العنصرية القومية بالعنصرية الدينية: وهو تداخل قد يكون لا إرادياً أحياناً، إذ يكمن في العقل الباطن للباحث ضدّية مزدوجة ينصهر فيها القومي بالديني. تتصاعد أعراض هذه العنصريات إذا تم تغذيتها من ثلاث فئات منتفعة هم: الإعلاميون والرأسماليون ورجال الدين. يتزايد تأثير الفئتين الأوليين في الغرب عنه عندنا، ويتزايد تأثير الفئة الثالثة عندنا عنه عند الغرب. ليس هذا بسبب التسامح الديني عند الغرب ولكن بسبب أن الدين يحظى عندنا بأهمية ونفوذ أكثر مما هو عند الغرب.
الثالث: تغطية جرائم إسرائيل وضغوط الصهيونية؛ وهنا يكمن التنازع في مشهد الكراهية بين الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) والخوف من معاداة السامية (الأنتي سيميتزم)، إذ لا يمكن أن تثبت أنك بريء وخالٍ من أعراض «العداء للسامية»، وهي براءة مهمة في الغرب من أجل النجاح والسلامة ما لم تكن مؤمناً ومعززاً لهاجس «الإسلاموفوبيا»، الجناح الآخر الذي يحتاجه الإنسان الغربي، مع جناح عدم معاداة السامية، للطيران والتحليق في أجواء المناصب والرفاهية واللمعان!
أما عن إسهام المسلمين في تعزيز «الإسلاموفوبيا»، فهو نوعان، الأول: الذي يأتي من لدن الجماعات الإسلامية المتشددة، حين تتخذ العنف والإرهاب وسيلة لتعاملها مع الآخر (علماً أن هذا الآخر ليس هو دوماً من غير المسلمين!)، لكن هذا الإرهاب الذي يفجّر باسم الإسلام لا بد من أن يسهم في تكوين مشاعر خوف من الإسلام، خصوصاً ممن لا يعرف الإسلام، بالتالي لا يستطيع التفريق بين قيم الإسلام وممارسات المسلمين.
لذا، فإننا مهما تحيزنا لذواتنا وديننا وثقافتنا، فلا نستطيع أن نخلي مسؤوليتنا -نحن المسلمين- من تحمل قسط كافٍ من شيوع «الإسلاموفوبيا»، بغض النظر عمن يشيع هذا المفهوم أو الهاجس من زرّاع الكراهية من الطرفين.
الثاني: هم أولئك الفئة من المسلمين الذي يخوّفون الناس من الإسلام، من منطلقات لا دينية بل براغماتية نفعية، يقدمها من يسميهم الفرنسي فنسان جيسير: (مسلمون تحت الطلب!) وهم فئة من المثقفين والإعلاميين المسلمين الذين أصبحوا ضيوفاً دائمين على الإعلام الغربي وخبراء في عدد من المؤسسات ذات الصلة، إذ إنهم يؤدون دور (الشاهد من أهله) وهي شهادة مضاعفة القيمة والأثر.
أي أن إسهام المسلمين أنفسهم في تأجيج «الإسلاموفوبيا» يمكن إيجازه في شكلين: التخويف بالإسلام أو التخويف من الإسلام!
لم نستغرب أن تنجح ماكينة «الإسلاموفوبيا» في تأجيج العنف والوحشية لدى بعض أبناء الغرب ليخرج منهم مثل سفاح نيوزيلندا، لكننا استغربنا أن «الإسلاموفوبيا» نجحت في بعثرة وإرباك مواقف بعض أبناء المسلمين! ما يؤلم، ليس فقط كراهية الآخر لنا، بل إيمان بعض أبنائنا بأننا -نحن فقط- أسباب كراهية الآخرين لنا.
وفي هذا الصدد، فإننا كثيراً ما نهمل البحث أو الإشارة إلى تفسير دوافع العنف، ليس من منطلق تبريري، بل تفسيري للوقائع المحيطة بالعنف.
يجب أن ندرك شطري معادلة ذات اتجاهين تتلخص في أن: العنف يؤدي إلى الفوبيا، وبالمقابل أيضاً فإن الفوبيا تؤدي إلى عنف!
والذين، على غرار إرهابي نيوزيلندا، لا يجيدون التعبير عن حبهم لوطنهم وقلقهم عليه إلا من خلال فنون الكراهية… كراهية الشعوب، كراهية الأوطان، بل وكراهية المواطنين الذين اختلفوا معه، فإنهم أناس لا يمكن الاعتماد عليهم في تقوية الوطن، لأن الأوطان التي تُبنى على الكراهية تصبح هشة أمام أضعف ريح تعصف بها.
يجدر بنا أن نؤكد أنه لا ينبغي أن نعالج أو نقاوم «الإسلاموفوبيا» بفوبيا مضادة، إذ سننخرط حينها في دوامة عنف وكراهية تبادلية مع الآخر يمكن وصفها بأنها «إنسانوفوبيا» يتم تغذيتها بمشاعر الكراهية من الأطراف كافة!
يتزايد هذا القلق حين أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تمدد ثقافة الكراهية لتصبح في متناول الشعوب/ الأفراد وليس فقط بيد المؤسسات الحكومية والأهلية كما كان مسبقاً.
وسائل التكنولوجيا الحديثة أتاحت للناس أن يعبّروا بسهولة عن كراهيتهم لأفراد ورموز، أو لتأجيج كراهية قبلية ومناطقية داخل الوطن نفسه، أو لقيادة حملة شعبية عبر «هاشتاق» تكريهي ضد شعب آخر، فيكون لهذا الهاشتاق مفعولاً أشد من الحملات التي كان بها يقوم بها الإعلام الرسمي لدولة ضد دولة أخرى.
الكراهية بين السياسيين كانت تشتعل وتزول سريعاً وفق أعراف ديبلوماسية تُجيد السيطرة عليها، أما الكراهية بين الشعوب فأمد علاجها يطول وقد لا يزول!
والخلاصة، إن تزايد نفوذ التيارات اليمينية الآن في هذا العالم بأسره، ستحيلنا من العيش تحت مهددات الإسلاموفوبيا والعلمانوفوبيا إلى العيش تحت ظل الإنسانوفوبيا، حيث الغابة البشرية التي يخاف فيها الإنسان من الإنسان!
كاتب سعودي.