نون والقلم

عبدالله الأيوبي يكتب: الجولان بعد القدس والقادم أعظم

عندما تقدم قوة عالمية عظمى على تجاهل القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية المتمثلة في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك تلك القرارات التي صدرت بموافقة وتأييد هذه القوة، ألا يعني ذلك دعوة صريحة للآخرين إلى تجاهل هذه القرارات وعدم احترامها، الأمر الذي يعني قيادة العالم نحو سياسة الغاب وترك العلاقات بين الدول أسيرة منطق القوة، ما يقود بكل تأكيد إلى إشاعة الفوضى وحالة عدم الاستقرار في مختلف بقاع المعمورة. هذه السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي لا تليق بقوة عظمى يفترض أن تقدم نفسها قدوة للدول الأخرى وأن يكون دورها مساهما في دعم الاستقرار والأمن الدوليين وليس زعزعتهما.

منذ دخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تمارس سياسة متطرفة جدا فيما يتعلق بالتعامل مع هذه القوانين والقرارات الدولية، فالرئيس ترامب قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لــ«إسرائيل» خلافا لما ينص عليه القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة التي لا تعترف بأي تغيير يطرأ على هذه المدينة باعتبارها أرضا محتلة، والأمر نفسه ينطبق على موقف الإدارة الأمريكية الحالية المعلن والخاص بوضع هضبة الجولان السورية المحتلة وقول الرئيس ترامب «إن الوقت قد حان للاعتراف بالسيادة «الإسرائيلية» على هذه الهضبة».

الخطير في الأمر لن يقف عند الاستهتار الأمريكي بالقوانين الدولية، بل في التعدي الوقح على حقوق الآخرين والمشاركة في نهب أراضيهم الأمر الذي ينم عن أن ما هو أعظم قادم بعد الجولان.

ما ينطبق على مدينة القدس المحتلة والأراضي الفلسطينية الأخرى المحتلة ينطبق على هضبة الجولان السورية، فالوضعية القانونية والسياسية لهذه الأراضي يحددها القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وليس موقف واشنطن السياسي من هذه الأراضي، صحيح أن أمريكا تستغل تفوقها العسكري والاقتصادي في تجاهل القانون الدولي والعمل على تمكين «إسرائيل» من فرض الأمر الواقع على الأراضي التي احتلتها بعد عدوان الخامس من يونيو عام 1967. لكن ذلك لا يغير من حقيقة أن هذه الأراضي تبقى محتلة وأن جميع التصرفات فيها تعتبر غير قانونية وأن استعادتها بكل الوسائل يبقى حقا مشروعا لأصحابها.

فميزان القوة اليوم يميل بشكل حاد جدا لصالح «إسرائيل» التي تستمد تفوقها وقوتها من تفوق وقوة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذا الميل والخلل ليس دائما، فعجلة التغيرات والتحولات في العالم في دوران مستمر وحدثت تحولات عميقة في هذا العالم خلال العقود الأخيرة، بل إن تحولات كثيرة غير متوقعة قد حدثت بالفعل، ومن ثم فإن سياسة فرض الأمر الواقع بقوة المال والسلاح هي سياسة خاطئة وغير مجدية على المدى البعيد، بل ربما تكلف من يمارسها أثمانا باهظة جدا، فالتاريخ مليء بالعديد من التجارب والأدلة التي تؤكد ذلك، أضف إلى ذلك أن المجتمع الدولي برمته يرفض سياسة فرض الأمر الواقع «الإسرائيلي» على وضعية الأراضي الفلسطينية والسورية.

تجلى هذا الأمر من خلال المواقف السريعة التي صدرت عن العديد من دول العالم، وفي مقدمتها الدول الحليفة والصديقة للولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل»- أي الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى إضافة إلى دول كبرى مثل روسيا والصين- التي رفضت كلها بشكل صريح تغيير مواقفها القانونية والسياسية من وضعية هضبة الجولان السورية المحتلة ومن مدينة القدس المحتلة أيضا، هذه كلها إشارات صريحة تخطئ الموقف الأمريكي من هذه القضايا المصيرية والحساسة، والتي تعد واحدة من العقبات الكأداء التي تقف حائلا دون تحقيق السلام في المنطقة وإرساء حالة من الاستقرار والأمن الدائمين.

ما تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية من أعمال وما تتخذه من مواقف حيال قضايا حساسة جدا بهدف تمكين «إسرائيل» من فرض سيطرتها بالقوة على أراضي الغير، لا يعدو كونه شكلا من أشكال العبث السياسي غير المسؤول، والذي يجب ألا يصدر عن قوة عظمى منوط بها دعم القانون الدولي وحماية الأمن والسلم الدوليين، مثل هذه السياسة أثبتت عقمها على المدى البعيد، هذا من جهة، ومن الجهة الثانية فإن الاستمرار في سياسة الالتفاف على القوانين والشرعية الدولية ليس سياسة صائبة ولن تقود سوى إلى مزيد من التأزيم وعدم الاستقرار، وهذا لن يخدم مصالح أي من الأطراف، بما في ذلك الأطراف التي تستغل إمكانياتها العسكرية والاقتصادية لتحقيق ذلك.

ما هو مطلوب من الولايات المتحدة الأمريكية كقوة دولية عظمى، ليس تمكين المعتدي من الاستفادة من نتائج عدوانه وبما يخالف القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، بل مطلوب منها تعزيز قوة القانون والمؤسسات الدولية باعتبارها المصادر التي يمكن التعويل عليها لإضفاء الاستقرار وحماية حقوق جميع الأطراف، وخاصة الأطراف الصغيرة والضعيفة، فالعالم يجب ألا يعود إلى شريعة الغاب، بل يجب على الولايات المتحدة، قبل وأكثر من غيرها، أن تدعم التوجه نحو إخضاع العلاقات بين الدول إلى قوة القانون وليس لقانون القوة.

يجب على أمريكا، ومعها «إسرائيل» بطبيعة الحال، أن تدركا أن الحقوق المشروعة للشعوب لا يمكن مصادرتها بقوة السلاح أو المال، فالكيان «الإسرائيلي» يحتل هضبة الجولان السورية منذ ما يزيد على الأربعين عاما، وخلال هذه العقود الأربعة ولدت أجيال سورية ترفض حتى الآن الانسلاخ عن وطنها الأم وتقاوم بكل الوسائل المتاحة سياسة الضم التي تمارسها «إسرائيل» منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي. السيطرة العسكرية التي تحاول «إسرائيل» عبرها فرض أمر سياسي واقع، مآلها الفشل، وفي النهاية سوف تسلم «إسرائيل» بأحقية سوريا في استعادة جميع حقوقها المغتصبة، فليس هناك صك أبدي يضمن التفوق «الإسرائيلي» إلى ما لا نهاية.

نقلا عن صحيفة الخليج البحرينية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى