يعتبر عصرنا الحالي عصر الحشود البشرية؛ نظراً لبلوغ عدد سكان الأرض أعلى مستوى عرفه تاريخها، حيث تتوقع الأمم المتحدة أن يبلغ عدد سكان الأرض عام 2025 تسعة مليارات نسمة، وفي مناسبات بعينها تحتشد جموع من الناس في مكان واحد بغرض ممارسة بعض الأنشطة والطقوس والاحتفاليات، ومع حصول هذا التجمهر، تبرز جملة تحديات في إدارة احتياجات ومتطلبات هذه الحشود وتنظيمها، من حيث النقل، والانتظام في الوقوف، والجلوس، والسير، والطعام، والشراب، والأمن العام، والحضور، والانصراف.
أبرز الحشود البشرية
ومن أبرز هذه الحشود عالمياً، مهرجان (ارده كومبه ميلا)، أو مهرجان الحج الهندوسي النصفي؛ حيث يتدفق حوالي 70 مليون فرد من الهند وخارجها في واحد من أكبر تجمعات البشر على وجه الأرض للاغتسال من ذنوبهم في المياه الباردة لنهر الغانج شمال الهند، بحسب معتقداتهم.
وكذلك الاحتشاد لأداء مناسك الحج والعمرة في حرمي مكة والمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية، حيث يتوافد مليونا مسلم لموسم الحج من جميع أنحاء العالم، في حين يتوافد الملايين لأداء نسك العمرة على مدار العام، وخصوصاً في رمضان، حيث تصل أعدادهم إلى ثلاثة ملايين معتمر.
وكذلك الاحتشاد للمشاركة في تصفيات كأس العالم، حيث بلغ عدد القادمين من مختلف أنحاء العالم لمشاهدة التصفيات في جنوب أفريقيا عام 2010 والبرازيل 2014 حوالي 3.5 مليون شخص.
الأخبر عالمياً
تعتبر المملكة العربية السعودية الدولة الأكثر خبرة على مستوى العالم في إدارة الحشود البشرية، بسبب الخبرة التراكمية التي تولدت على مدار عشرات السنين في التعامل مع استقبال ضيوف الرحمن من قارات العالم الخمس، وقد استعانت جنوب أفريقيا بخبرة المملكة في تنظيم كأس العالم عام 2010.
شهادات دولية
وفي هذا الصدد أكدت خبيرة في الأمم المتحدة أنه لا توجد دولة في العالم تدير وتنظم الحشود والتجمعات البشرية بهذا المستوى، بصفة سنوية؛ وأن تجربة المملكة المتراكمة في مواسم الحج والعمرة أعطتها بعداً عالمياً في إدارة الحشود؛ لما تملكه من خبرة وكفاءة في هذا المجال.
وقالت الدكتورة سلا يانويا ممثلة الأمم المتحدة على مستوى العالم بجنوب أفريقيا أثناء مشاركتها في المؤتمر الدولي لطب الحشود والتجمعات البشرية الذي عقد عام 2010: “إن دول العالم، بما فيها جنوب أفريقيا، وخلال استضافتها كأس العالم استفادت من الخبرة السعودية، والسبب بسيط؛ أنه لا توجد دولة تدير وتنظم هذه الحشود وبهذا المستوى وبصفة سنوية مثل المملكة العربية السعودية، كونها تحتوي قبلة المسلمين”، وأكدت أن “المملكة وصلت لهذه الخبرة العالمية في إدارة الحشود بعد أن واجهت الكثير من التحديات لتمكين المسلمين القادمين إلى الحج أو العمرة لأداء مناسكهم وفريضتهم”.
ولفتت إلى أن “التحديات التي واجهتها المملكة كانت جسيمة، واستطاعت بعد سلسلة من التجارب أن تصل إلى الحد الأعلى في مجال إدارة التجمعات البشرية”.
جائزة الجمرات
وقد فاز مشروع منشأة الجمرات الحديثة بجائزة “فرانس إيدل مان أوارد” بالولايات المتحدة الأمريكية لأفضل البحوث التطبيقية والتشغيلية ضمن 6 مشروعات حصلت على الجائزة لعام 2015، من بين مئات المشروعات التي تم ترشيحها من جميع دول العالم.
وعزت المؤسسة سبب حصول مشروع منشأة الجمرات الحديثة على هذه الجائزة، نظراً لتميز المواصفات الهندسية والإنشائية والخطط التشغيلية والحداثة، وشمولية الأبحاث التطبيقية والخطط التشغيلية للمشروع في مجال إدارة الحشود البشرية وتفويج ملايين الحجاج لرمي الجمرات بكل يسر وسهولة وبأعلى درجات السلامة والأمان، بالإضافة إلى ما حققه هذا المشروع من نتائج مبهرة في تقليص المخاطر المرتبطة بتزاحم وتدافع الحجيج أثناء رمي الجمرات.
تطوير وتوسيع الحرم
تعمل المملكة العربية السعودية على مضاعفة الطاقة الاستيعابية للحجاج كل عام، بسبب زيادة عدد سكان العالم، ومعها يزداد عدد المسلمين؛ ومن ثم الحجاج والمعتمرون، حيث زادت سعة المطاف 20 ضعفاً خلال السنوات العشر الماضية، من قرابة 100 ألف حاج إلى أكثر من مليوني حاج سنوياً.
وتم مضاعفة مساحة الحرم المكي 12 ضعفاً، من 28 ألف متر مربع إلى 356 ألف متر مربع، وستصل إلى 750 ألف متر مربع بعد اكتمال التوسعة الحالية، أي 26 ضعفاً.
هذا الأمر، كان محل تقدير على مستوى العالم الإسلامي. رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، عندما شاهد توسعة الحرمين الشريفين في عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز قال: “باحترام أسجل تقديري؛ وعن المسلمين وأمتنا، لخادم الحرمين الشريفين بما يقوم به من مشروعات تعتبر دقة في العمل، وعلو الفن المعماري في هذه التوسعة والعمارة العملاقة في بيوت الله.. بارك الله في كل من خطط ونفذ ووضع حجراً فيه”.
التكنولوجيا في إدارة الحشود
استعانت السعودية بالتكنولوجيا في إدارة الحشود البشرية المليونية، التي تصل لأداء الحج والعمرة، من خلال استخدام برنامج لتحليل الحشود بشكل حي، صممته شركة “كراود فيشن”، الذي لا يمكنه فقط تحديد المشاكل وسط الحشود، بل يمكنه التنبؤ بالأماكن التي من المرجح أن تشهد تزاحماً.
وعبر هذا البرنامج يتم تغذية بيانات حية إلى غرفة عمليات كبيرة، حيث يحللها أفراد الجيش والشرطة وغيرهم من مديري الحشود.
وقالت فيونا سترينس، التي شاركت في تأسيس الشركة التي صنعت هذا البرنامج إنه “يحدد أنماط سلوك الحشد التي تشير إلى المخاطر المحتملة، مثل الكثافة العالية والضغط والاضطراب وموجات التوقف والتحرك وغيرها من السلوكيات الغريبة”.
في عام 2007 جرى تنصيب هذا النظام في مكة، وهو يرصد حركة الحجاج كل عام منذ ذلك الحين.
خاتمة
إن إدارة الحشود في العصر الحديث تعتبر علماً قائماً بذاته له أدواته وآلياته وضرورته الحتمية التي تهتم بها جهات متخصصة حول العالم، وذلك لإيجاد الحلول المبتكرة لحل مشاكل التكتلات البشرية في نقاط الحشد الحرجة.
وقد خصصت السعودية وزارة كاملة لتنظيم الحج والعمرة، ويعود تاريخ إنشاء هذه الوزارة إلى 1945 عندما أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً يقضي بإنشاء مديرية الحج والحرمين الشريفين.
إن وقوع الحوادث داخل الحشود البشرية من الأمور البديهية المسلم بها من خلال استعراض التاريخ الإنساني، لذلك ومع أن حادث سقوط رافعة في الحرم، وسقوط ضحايا في منىبسبب التدافع، يعتبران من أسوأ الحوادث وأشدها إيلاماً، إلا أن استغلالهما لأهداف سياسية من الأمور التي تؤخذ على أطراف إقليمية وظفت كل شيء لخدمة أهداف طائفية ضيقة، كما يقول مراقبون.
وقد ضجت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي بردود الفعل التي تستنكر مثل هذا السلوك، خصوصاً استخدام الدين والنعرة الطائفية في الصراع السياسي، ومن أبرز المنتقدين مؤخراًالشيخ سلمان العودة، حيث هاجم نوايا إيران في المملكة العربية السعودية، قائلاً: “إن دعوتها لتدويل رعاية الحج يخدم مصالحها التي تضر بالمملكة”.
وقال خلال مقاطع قصيرة عبر حسابه على تطبيق “سناب شات”: “هذه الدول مشغولة بهمومها عن هموم غيرها، وبنفسها عن الآخرين، وبالتالي ما يتم الحديث عنه حول التدويل هو شغب وتشويش”.
وطالب العودة الحكومة الإيرانية ببدء تنفيذ مقترحها لتداول رعاية الحج على مقدساتها في العراق وإيران، قبل مطالبة السعودية بالمشاركة في رعاية الحج، قائلاً إن مواسم الزيارات على مراقد الشيعة تشهد أيضاً العديد من حالاة الوفاة بسبب التزاحم.