هل تعمدت الحكومة الفرنسية تقليل حضور الشرطة في تظاهرات السبت قبل الماضي، لتحفيز المتظاهرين إلى أعنف تخريب، فتضرب صدقيتهم لدى الرأي العام؟
كل شيء جائز في عالم السياسة، وبالتالي دفع الجيش ليكون بداية طي ملف «السترات الصفر»، وكأنه الحل العربي المتوافر أمام عجز أهم أنظمة أوروبا أمام أقل المطالب الاقتصادية.
لقد قزّمت الاحتجاجات الرئيس إيمانويل ماكرون عالمياً، وتراجعت تصريحاته الاستعراضية بعد أن دامت عاماً ونصف العام، وجّه فيها دول المنطقة حول كيفة تسيير شؤونها الداخلية، بينما شاهد العالم انضباط احتجاجات العرب في السودان والجزائر مقابل الفرنسيين في باريس، فلم يحرقوا معلماً، ولم ينهبوا محلاً، ولم يلوثوا شارعاً، ولم يعطلوا الحياة في مكان واحد.
عندما بدأ الرئيس ماكرون حكمه ارتدى عباءة الرئيس أوباما. كان يطمح أن يكون «أوباما أوروبا»، و«أوباما العرب». تأثره بالرئيس الأميركي السابق بدا صريحاً منذ حملته الانتخابية. فات عليه أن أوباما قدم رؤيته مستنداً إلى حزب ديموقراطي قوي، وإلى دولة هي سيدة العالم، وهو ما يفتقده حزبه الناشئ، ونفوذ دولته المتضعضع بسبب الرئيسين ساركوزي وهولاند. وخلال البداية أراد أن يكون «جون كيندي» شكلاً، و«باراك أوباما» مضموناً. أراد مزج الشخصيتين ليعبّر عن هويته. إذ إن الرئيس مشغول بالمسرح، بالصورة الخارجية، بنظرة الجمهور إلى حركته على الخشبة. يتذكر كيف بدأ ممثلاً مسرحياً في شخصية «فزاعة طيور» في مزرعة. لم تتغير الصورة كثيراً داخل الإليزيه، سكن القصر ومارس الدور ذاته؛ «فزاعة» مسرحية تريد أن تفرض هيبتها على أوروبا والمنطقة.
ولعل ابن الطبيبين استعجل علاج أمراض أوروبا الحديثة، ونسي المرض العضال في فرنسا. لا يكفي النصر المفاجئ على اليسار واليمين في انتخابات 2017 لصناعة تغيير، لأن الناس اختارته نتيجة غياب الخيارات الحديثة، إذ بلغ الرئاسة في فراغ سياسي أحدثه تفسخ الأقطاب، وعرف كيف يملأه. بدأ حملته من المدن متجهاً إلى العاصمة، بعكس بقية المنافسين، إذ يبدأونها من باريس إلى عموم فرنسا. وظنّ أن الفوز الساحق كافٍ لحكم البلاد، وتوجيه أوروبا، واستعادة النفوذ الفرانكفوني، والاستعلاء على الخليج، ونسي أن الحظ وحده لن يحقق كل ما سبق، بينما لم تكفه أربعة أشهر ليفهم ما يجري في أهم شارع في العالم، الشانزليزيه، ويتعامل معه وفق ذلك.
عرفت باريس تظاهرات مصيرية؛ الطلاب في 1968 حرّكتها فكرة، و«السترات الصفر» يحركها الفقر والعوز. يمكن أن تتفاوض مع الفكر والمفكرين، لكن لا حلّ مع الجوع إلا بسد رمق الأفواه. في الأولى انهزم أهم رئيس، شارل ديغول، أمام المفكر جان بول سارتر، وفي الثانية، الله وحده يعلم نهاية الرئيس ماكرون أمام سائق أجرة.