منذ بداية مارس الجاري ونحن نحتفل بمئوية ثورة 19 أو الثورة الأم – أي الثورة التأسيسية للدولة المصرية – على اعتبار أن مصر قبلها كانت تحت وصاية الخلافة العثمانية من جانب والحماية البريطانية من جانب آخر، وبعد نجاح الثورة خرجت مصر من وصاية الإمبراطوريتين، وأصبحت كياناً سياسياً مستقلاً في عام 1922 يعترف به كل العالم، وأصبح الشعب المصري هو السيد في وطنه وجاء دستور 23 مرسخاً لأركان الدولة الوطنية المصرية ومؤكداً سيادة الشعب.
ومع أن مصر الرسمية لم تحتفل بمئوية ثورة 19 بما يليق بتاريخها وإنجازاتها وتأثيراتها العميقة والممتدة حتى الآن في تكوين وتشكيل هوية الدولة المصرية ومر يوم التاسع من مارس الجاري مرور الكرام، ولم يتم على أقل تقدير قيام مجلس الوزراء بإعلان هذا اليوم إجازة رسمية بمناسبة مرور 100 عام على الثورة الأم التي كانت بمثابة الاستقلال الحقيقي لمصر بعد عدة قرون من التبعية لدولة الخلافة وبعد التحرر من الحماية البريطانية، كما كان يجب إقامة احتفال رسمي وشعبي للدولة المصرية في هذا اليوم الذي تحتفل به دول ومؤسسات عالمية مثل بريطانيا التي أعلنت عن مؤتمر بجامعة لندن لمدة ثلاثة أيام، وأيضاً فرنسا بمؤتمر في معهد العالم العربي بباريس، والهند التي احتفت بالثورة في إعلامها الرسمي ولم تغفل تأثير ثورة 19 على الهند واستلهام غاندي لخطوات سعد زغلول في تحرير الهند.
صحيح أن وزارة الثقافة المصرية أقامت مؤتمراً دولياً لمدة ثلاثة أيام بالمجلس الأعلى للثقافة واختتمته بحفل فني بدار الأوبرا المصرية أمس الأول، وفى اعتقادي أن هذا الاحتفال جاء على هذا المستوى الرفيع بسبب جهود الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة باعتبارها أحد رموز الإبداع والثقافة في مصر قبل أن تكون وزيرة، وتعي جيداً قيمة هذا الحدث تاريخياً.. والحقيقة أن هذه الوزيرة المبدعة كانت على قدر المسئولية، ووجهت إمكانيات الوزارة – المتواضعة – في قطاعاتها المختلفة بدءاً من فتح بيت الأمة ومروراً بدار الكتب والمجلس الأعلى للثقافة وانتهاء بحفل دار الأوبرا.. ولا أغالى إذا قلت إن هذا الاحتفال الرمزي حفظ ماء وجه الدولة المصرية.
ولعل أهم ما ميز مؤتمر وزارة الثقافة هو الدراسات العميقة والقيمة التي تناولها المؤتمر بمشاركة نخبة من العلماء والمفكرين والمؤرخين الذين تناولوا كل جوانب الثورة وتأثيراتها خارجياً سواء في بريطانيا الدولة المحتلة أو فى السودان والعراق والجزائر وفلسطين والهند واستلهام روح ثورة 19 في انفجار الثورات في هذه البلدان على اعتبار أنها كانت الثورة الأم في الشرق وملهمة لكل الأحرار والثوار في العالم.. كما كانت الدراسات والندوات أكثر عمقاً وشرحاً في تأثيرات الثورة على الشأن المصري والتحولات الجذرية التي حدثت في المجتمع بدءاً من هندسة الهوية المصرية في أعقاب الثورة وشعارات الثورة ودلالتها والاقتصاد المصري ما قبل الثورة وما بعدها، وتجليات الثورة في إعادة هيكلة أدوار المرأة المصرية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ومروراً بالحراك المجتمعي والنهوض الوطني في شتى المجالات وتفجر إبداعات المصريين في الأدب والفنون والشعر والغناء والمسرح والفنون التشكيلية والنحت، وانتهاء بالجانب السياسي الذي حدد بشكل قاطع استقلال الوطن وانتصار الهوية الوطنية المصرية، والبناء التشريعي والقانوني لها، ولم تغفل الدراسات المتنوعة التي تجاوزت 75 بحثاً أثر ثورة 19 في وجدان الشعب المصري حتى الآن واستلهام الشعب المصري لها قبل وأثناء ثورة 30 يونيو 2013 سواء في جمع استمارات تمرد أو في تلاحم الشعب المصري لإنهاء حكم الإخوان والإصرار على الاحتفاظ بهويته التي ترسخت على مدار قرن من الزمان.
نائب رئيس الوفد