يثبت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كل مرة، أنه يتاجر بالقضايا الإنسانية كما يتاجر رجل الأعمال ببضائعه، غير أنه يشطح معظم الأحيان بما لا يليق، رامياً عرض الحائط كل مشاعر الآخرين، مصراً على رفع كأس الاستعراض العالمي.
إذا كنا نحن المشاهدين أو المتابعين لا نلقي بالاً لتصريحاته ضد العدو الصهيوني، على اعتبار أنه وإن كان يزايد فهي ضد غاصب محتل، فإنك تشعر بالاستفزاز من طريقة تعامله مع المشكلة السورية والكردية والدواعش وتقاطعهم بعضهم مع بعض.
ففي بداية الأزمة جعل الأتراك حدودهم معبراً آمنا للدواعش لكي يتجهوا إلى سورية وأحياناً إلى الدول الأوروبية، بل إن منبج المدينة السورية المتاخمة لتركيا والتي تعرف بأنها ذات أغلبية كردية وفي فترة سقوطها بأيدي الدواعش أصبحت ملاذاً آمناً لكل داعشي من أنحاء العالم، وعلاقتها بتركيا مثل «السمن على العسل»، المهم لدى تركيا ألا يقترب منها الأكراد.
المصيبة هي أن الأكراد سوريون، وهذا يعني أن الأتراك «ليس لهم في العير ولا في النفير»، ولكن موقف الأتراك من الأكراد، أيا كانت جنسيتهم، تاريخي في عدائه، وبالتالي كان احتجاجهم بعد استعادة السوريين لمنبج من قبضة الدواعش بعد احتلالها لمدة عامين ونصف العام في آب (أغسطس) 2016 غريباً وساذجاً.
موقف أردوغان ونظامه من سورية موقف انتهازي لا علاقة له بأي قيم، فهو لا يهمه ماذا يحدث للسوريين بقدر ما يعنيه الفائدة التي تجنيها تركيا! حتى لو أدى ذلك لأن تتحول سورية إلى دويلات، بمعنى أنها تصفية حسابات مع الأكراد، أما الشعب السوري فإلى الهاوية، وطبعاً مع كل هذا الخذلان الذي يمارسه تجاه سورية تجده يتوغل ويحتل مطبقاً أسلوب الأتراك القديم الذي مارسوه من قبل مع سورية أو قبرص.
قبل أيام وقعت الكارثة التي نعرفها جميعا عندما أقدم مجرم قاتل باعتداء أثيم على مصلين في مسجدين في نيوزيلندا، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 50 مسلماً ناهيك عن الجرحى، في صدمة مروعة إرهابية هزّت الكيان الإنساني قبل أن توجع المسلمين أنفسهم، وكان رد الفعل النيوزيلندي قمة في السلوك الحضاري والإنساني على جميع الصعد، رسمياً وشعبياً، بل إن رئيسة الوزراء لبست ذلك اليوم الحزين حجاباً على الطريقة الإسلامية، وألقت تأبينا بدأته بالسلام باللغة العربية، ناهيك عن شجب واستنكار لم تصنعه أي دولة من قبل، بالتالي: هل من المنطق أو من اللياقة أن أخرج كرئيس لدولة إسلامية وأهدد بعقاب الجاني إن لم تعاقبه نيوزيلندا؟
هذا ما فعله أردوغان. قطعا كان التصريح غير مقبول بتاتاً، لا ديبلوماسياً ولا حضارياً، وكنت أتمنى أن يوفر شجاعته المزعومة وينقل هذا التهديد إلى الكيان الصهيوني الذي يعربد كل يوم في الأراضي المحتلة وبوضح النهار وعن عمد، من ممارسات عنف وسجن وقتل ضد الفلسطينيين بجميع دياناتهم، الفارق بينهم والنيوزيلنديين أن الجاني في نيوزيلندا كان تصرفاً فردياً وضد سياسة الحكومة، بينما في فلسطين إرهاب الدولة هو من يمارس الأفعال المشينة.
لم يهتم أردوغان بما قد تحدثه تهديداته من تأثير لدى المتطرفين من المتحمسين الإسلاميين، لاسيما من الصغار المغرر بهم، بل إنه لم يهتم بما يمكن أن يؤثر هذا على المسلمين في نيوزيلندا من المتطرفين ضد الإسلام أو ضد المهاجرين عموماً، فهم يعتبرون تصريح زعيم محسوب على دولة إسلامية استفزازاً وتدخلاً، خاصة أن نيوزيلندا عالجت الأمر بكل حكمة واتزان.
فعلاً، حال المسلمين في بعض البلدان يقول كما قال المثل أو الحكمة: «اللهم نجني من أصحابي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم».