يبدو أن التاريخ يعيد نفسه فما حدث في نيوزيلندا من عمل إرهابي يوم الجمعة الماضي حدث من قبل في النرويج عام 2011، وراح ضحيته 77 قتيلاً و عشرات من الجرحى والقصص والحكايات التي يقصها الناجون من المجزرة الشنيعة التي راح ضحيتها 50 رجلاً في حادث إطلاق النار الإرهابي على مسجدين في نيوزيلندا، تشبه وتكاد تكون مطابقة تفاصيلها المفجعة بالكربون للحظات المؤلمة التي مروا بها الضحايا في النرويج عام 2011، وفى كلا العمليين الإرهابيين فتح مسلح، يرتدي ملابس سوداء، النار على الضحايا.
وكانا المهاجمين يطلقا النار على الأشخاص في صدرهم؛ واستغرقا العملين أقل من 20 دقيقة ؛وحادث النرويج تم رصده في فيلم «22 يوليو» أحد أفلام القوى الناعمة التي تهديها السينما العالمية لصالح العرب والمسلمين؛ ولكنهم لا يحسنون استخدامها؛ فمن المعروف أن فيلم «22 يوليو» الذي شارك في الدورة الـ75 لمهرجان فينيسيا وفي مهرجان تورنتو السينمائي الدولي؛ ومخرجه «بول جرينجراس» تناول تفاصيل الاعتداء الإرهابي الذي قام به شاب منتمي إلى إحدى الجماعات اليمينية المتطرفة في النرويج عام 2011، وراح ضحيته 77 قتيلاً و عشرات من الجرحى؛ ولقد استعان فيه المخرج فيلم «22 يوليو» بفريق عمل من المواهب النرويجية، ورغم أن المجزرة تم تصويرها ضمن 45 دقيقة الأولى من الفيلم البالغ 140 دقيقة بينما باقي الأحداث ركزت على العواقب وعلى المعتدى؛ مقدما نظرة صارخة على الآثار العنيفة لحركة اليمين المتطرف المتنامية في أوروبا وعبر العالم. وخاصة أن إيديولوجية الإرهابي الملتوية تتوازن مع قصة ضحية شابة على طريق التعافي بعد الإصابة بجروح كبيرة في الهجوم.
ويرجع نجاح المخرج جرينجراس فى تقديم فيلمه «22يوليو » إلى استماعه الجيد لفريق الممثلين النرويجيين لأن هذه هي قصتهم ومأساتهم التي عاشوها جميعًا. وهذا يؤكد أن التواضع هو في صميم صناعة الأفلام الناجحة؛ وأجمل ما في طريقة السرد هو التوازي بين استعراض قصة المتطرف برايفيك؛ وقصة المحامي «جير ليبيستاد» المستدعى للدفاع عنه، والذي يجد نفسه في صراع بين رفض المجتمع له لقيامه بالدفاع عن إرهابي وبين واجبه كمحامٍ رغم عدم قناعته ببراءة موكله. وبين متابعة مأساة ومعاناة الشاب «فيليار» أحد الناجين من المجزرة بعد تعرضه لخمس رصاصات وما يعانيه من شظايا في رأسه تهدده بالموت في أي لحظة، إلى جانب الآثار النفسية للحادث عليه.
وفى هذا الفيلم تناول السيناريو حياة الإرهابي أندرس بهرنج بريفيك اليميني النرويجي مرتكب هجمات النرويج عام 2011 وهو كما يُعرّف نفسه أنه مسيحي ثقافيًا، (لكنه لا يُعرّف نفسه كمسيحي من الناحية الدينية، بل يعرف نفسه كوثني جديد)؛ وهو من اليمين المتطرف كما أنه معادي للإسلام وانتشاره . و المتهم استقل عبارة بعد تفجير العبوة الناسفة في قلب أوسلو و قام بتفجيرها بجوار مكتب رئيس الوزراء؛ ثم وصل إلى الجزيرة التي تبعد حوالي 24 ميلا عن العاصمة مرتديا زي رجل شرطة؛ معلنا انه مكلف بمهمته التحقيق في الانفجار الذي وقع في أوسلو ثم بدأ بإطلاق النار على الشبان الذين كانوا مجتمعين داخل قاعة لمتابعة خبر الانفجار في أوسلو، وأطلق النار على الضحايا من مسافة قريبة وعلى الشبان الذين حاولوا الفرار سباحة وهم داخل الماء؛ وكان يركل الضحايا الذين أطلق عليهم النار للتأكد من انه أطلق النار على الأشخاص الممددين على الأرض وأنهم فارقوا الحياة؛ فعل هذا بكل هدوء و بطريقة ممنهجة.
وخلال وقائع المحاكمة رفض بريفيك الاعتراف بالذنب مؤكدا أن ما فعله كان ضروريا لإنقاذ البلاد من «الأسلمة»، ورغم أنه أعلن أنه منتمى إلى أعضاء «فرسان الهيكل»؛ لكنه رفض الإجابة عن سؤال حول هوية باقي الأعضاء، مكتفيا بالقول إنهم مقاتلون قوميون تعهدوا بالعمل في خلايا منفردة وإنه كان على اتصال ببعضهم الذين ساهموا في «الاختيار» الذي قام به؛ وأنهم جميعا لديهم حق مشروع في القتال من أجل الدفاع عن حياتهم ومحاولات تدميرهم بالقضاء على ثقافتهم، مشددا على أن ذلك يُعد أحد الحقوق العالمية بمواجهة ما سماه «التنظيف العرقي»، مؤكداً أنه كان على استعداد تام للتضحية بحياته عند هجومه على جزيرة يوتويا يوم 22 يوليو.
وبالطبع كان الهجومين الهدف منهما الوقوف في وجه سياسات رئيس الوزراء النرويجي ينس ستولتنبرج وحزب العمل الحاكم المتسامحة تجاه الأجانب والهجرة. لذلك لم يكن غريبا انه كتب على صفحته في تويتر قبيل الهجومين بسويعات ما يلي (شخص واحد مؤمن يساوي قوة مائة ألف من الأشخاص الباحثين عن المصالح فقط)؛ وصدر الحكم عليه بالسجن منفردا21 عاما في 24 أغسطس 2012 ؛ ولعل أجمل ما في حوار الفيلم ما قيل في النهاية على لسان فيليار في قاعة المحكمة: « أنا سعيد لفقدي بصر إحدى عيني حتى لا أراك؛ وأنه عندما أطلق النار عليهم وتركني وحيداً على الشاطئ، لم أكن أعرف إذا كنت سأحيى أم سأموت، وكنت ما أزال عالقاً هناك منذ ذلك الحين. ولكنني الآن؛ أنا أدرك أن لدي فرصة الاختيار. لأنه ما زال لدي عائلة، وأصدقاء، وذكريات، وأحلام وأمل، وحب؛ وهو لا يحظى بهذا، إنه وحيد تماماً، وسيتعفن في السجن في حين أنني نجوت. واخترت أن أحيا».
ومن الملاحظ أن عمل جرينجراس السابق كصحفي جعله عاشق لعمل نسخ متطابق لفيلمه إلى حد كبير مع الأحداث؛ باختياره مستعرضا نوعان من الأشياء المتضاربة بدون أن تكون له أجندة سياسية خاصة به يريد طرحها؛ ومن المعروف جرينجراس مخرج سينمائي وسيناريست بريطاني وصحفي سابق. هو متخصص بتحويل الأحداث الحقيقية إلى أعمال سينمائية درامية مثيرة ومعروف باستخدامه الكاميرا المحمولة يدوياً؛ ويبدو هذا واضحا في أعماله السابقة وبالطبع لا يمكن إغفال أحد أعماله المعتمدة على نفس الأسلوب الأحد الدامي (The Bloody Sunday) هو فيلم تليفزيوني بريطاني أيرلندي دارت أحداثه حول ما يعرف بمذبحة الأحد الدامي (1972) وهي المذبحة المأساوية التي وقعت في أيرلندا الشمالية في عام 1972 والتي تناولها بأسلوب يقترب من الأسلوب التسجيلي. ونال الفيلم في عام 2002 جائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم في مهرجان برلين السينمائي.
وبعيدا عن أحداث الفيلم وعودة للواقع فقد تعجبت كثيرا من قرار رئيس جامعة أوسلو بالسماح لسفاح النرويج بعد ثلاث سنوات من حبسه بتكملة دراسته الجامعية؛ معللا ذلك بأن بريفيك حصل على الدرجات المطلوبة للالتحاق بالجامعة و مواصلة الدراسة؛ بل أن العجيب أن السلطات النرويجية قد رفضت طلبا تقدم به بريفيك من محبسه لتأسيس جمعية فاشية فقط لعدم استيفائه الشروط المطلوبة لتأسيس الجمعيات.
والمثير للجدل و لم يشير له الفيلم أن اسم إسرائيل ورد ذكره ما لا يقل عن 300 مرة في وثيقته التي تضم أكثر من 1500 صفحة، وأن كل ذكر لها جاء في إطار إيجابي. كما أنه هاجم الاتحاد الأوروبي لأنه حسب رأيه مؤسسة لا تتعاطف مع إسرائيل، بالإضافة إلى ذلك، فإنه يمتدح سياسة إسرائيل التي حسب رأيه لم تعط حقوق المواطن لمعظم المسلمين الذي يعيشون تحت سيطرتها بعكس أوروبا. هذا وقد كتب أنه «قد حان الوقت لوقف الدعم الغبي للفلسطينيين والشروع بدعم أبناء عمومتنا الحضاريين في إسرائيل»، وكانت تقارير صحفية قد ذكرت أنه نفذ عمليته الإرهابية لأن الشباب الذين قتلوا كانوا مؤيدين لفلسطين؛ والذين ماتوا الآن مسلمين وللأسف أن اليمين المتطرف يتسلل الآن ليحكم العالم .