مؤخراً وفي الأجواء المتفائلة بنهاية تنظيم «داعش» الإرهابي، أصبح الحديث عن مبررات الحضور العسكري الأمريكي في العراق محوراً رئيسياً في اهتمام الساسة العراقيين، الذين نشأ جلهم زمنياً في أطر ثقافة ثورة الرابع عشر من يوليو عام 1958 التي أنهت وجود القواعد العسكرية الأجنبية، واعتمدت سياسات وطنية مستقلة متخلية فيها عن التبعية للغرب، حين انضم العراق لحركة عدم الانحياز، سياسات استمرت في اعتمادها وانتهاجها جميع الحكومات التي أتت بها الانقلابات العسكرية العديدة، في الحقبة التي امتدت لحين سقوط النظام السابق في 2003.
الحضور العسكري الأمريكي في العراق له ميزة خاصة في ظرف زمني عراقي خاص في أطر صراعات إقليمية ودولية لم تشهدها المنطقة من قبل تنتظر الحسم عاجلاً وليس آجلاً. فهناك رافضون له بعنف وهناك مرحبون به بقوة، وإن لم يعلنوا ذلك صراحة وهناك مقتنعون بضرورته مرحلياً.
هذه المواقف المتباينة لم تتشكل كردود أفعال لسياسات واشنطن المتبعة منذ غزوها للعراق فحسب، بل تعود كذلك لما للدول الإقليمية من تأثيرات على النخب السياسية، ولما تبقى في الذاكرة العراقية من مبادئ الرابع عشر من يوليو 1958.
أما نظرة الساسة الأمريكيين للعلاقة مع العراق فهي تنطلق من مسؤولية العرّاب للنظام السياسي الجديد الذي تقع عليه مسؤولية حمايته وضمان أمنه واستقراره لضمان المزيد من الحضور في الشرق الأوسط، وما قد يجره ذلك على المدى البعيد من مزايا تعزز الدور الأمريكي كقوة عظمى، وما يترتب على ذلك من مكاسب اقتصادية يحققها عبر توسيع التبادل التجاري وإقامة المشاريع الاقتصادية الكبيرة اعتماداً على المخزون النفطي الكبير الذي لديه، ولأهميته السياسية في حفظ التوازن الإقليمي.
تحتل الولايات المتحدة مكانة مهمة لدى بعض الساسة العراقيين من منظور القناعة بأن حضورها ومكانتها الدولية يساعد العراق إلى درجة كبيرة على الخروج من أزماته الحالية والعودة دولة قوية قادرة على الحفاظ على أمنها ووحدتها، وهم يربطون هذا الحضور بمشاركتها الفعالة بإعادة بناء المؤسسات الأمنية والتعليمية والصحية، وتسهيل اندماجه بمحيطه الإقليمي. فاتفاقية الإطار الاستراتيجي (صوفا) الموقّعة مع الولايات المتحدة نهاية عام 2008 تضع الأسس لشراكة ثنائية مثمرة في مختلف القطاعات الحيوية وفي مقدمتها القطاع النفطي الذي يغذّي القطاعات الأخرى.
هناك برود بدأ يتسلل إلى أوصال العلاقات بين بغداد وواشنطن التي تزداد تأزماً، مع تعزز القناعات لدى الولايات المتحدة بالفشل في تحقيق أهدافها من إسقاط النظام السابق، فهي على ثقة تامة بأن الحكومات التي تتابعت منذ 2003 لا تكن لها الود، وقد زادت الشروخات في العلاقات مؤخراً بشكل واضح على قاعدة إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران والموقف العراقي غير المتجاوب معها، رغم التحذيرات والضغوطات الأمريكية.
ثلاثة رؤساء أمريكيين تعاقبوا والملف العراقي ملقى على طاولة الأزمات في البيت الأبيض، بوش الابن أول من فتحه وحاول إغلاقه باتفاقية الإطار الاستراتيجي عام 2008 ، والثاني باراك أوباما الذي حاول التنصل من تبعاته بالانسحاب المتسرع في ديسمبر 2011، والثالث الرئيس الحالي دونالد ترامب الذي يسخر من أداء سياسات سلفيه وقد لا يكتفي بذلك.
إدارة الرئيس ترامب قد تذهب إلى أبعد مما ذهب إليه سلفاه، فقد تبادر لسحب القوات العسكرية وإبقاء مجموعة صغيرة منها فقط، فالتمعن بكلمات الرئيس ترامب في الكلمة التي ألقاها في الثالث من مارس الجاري في مؤتمر العمل المحافظ في ميريلاند لا يستبعد احتمالاً كهذا. فهو إذ يكرر في كلمته امتعاضه من سياسات سلفيه في العراق وسوريا، ويعرب عن نفوره الشديد من الاستمرار في خوض حروب لا نهاية لها يدلل على فشل تلك السياسات، بالإشارة إلى أول تجربة ميدانية له شخصياً في العراق عند زيارته قاعدة عين الأسد في أعياد الميلاد المنصرمة، حيث اضطر طاقمه إلى إطفاء كل الأضواء على متن الطائرة العسكرية التي أقلته قبل الهبوط لضرورات أمنية، حيث قال بتهكم ( فكروا في ذلك، لقد أنفقنا سبعة تريليونات دولار في الشرق الأوسط ولا يمكن لنا أن نضمن هبوط طائرة بعد مرور عشرين عاماً، كم هو سيء!؟).
كاتب عراقي