ظن الجزائريون أن قوى الغرب ستنهض سريعاً لحماية مصالحها، وأنها ستأخذ موقفاً واضحاً بحماية الرئيس عبدالعزيز بو تفليقة، أو تنحاز إلى مطالبهم برحيله، فتلاشت ظنونهم مع هدوء كبير فرضته فرنسا، وسار معها بقية الغرب، إلى أن أعلن الرئيس الجزائري استسلامه. لقد اطمأنت باريس إلى أن المطلب ليس إسقاط النظام، وأن مؤسسات الدولة أكثر تماسكاً من جيرانها شرقاً، وأن الكلمة الفصل لدى الجيش، وأن نفوذها داخله لم يسقط بالتقادم.
عاشت الجزائر تقلبات في مزاجها السياسي، فلفظت فرنسا جغرافياً بالثورة والاستقلال، ومالت إلى السوفيات بهوية اشتراكية وليست شيوعية، ولاحقاً عادلت الكفة أميركياً، وفي كل المراحل لم تترك شعرة فرنسا؛ في عنفوانها السياسي، وحربها الأهلية، وعفوها الوطني، وسلمها الاجتماعي. بقيت باريس ملاذها الأول والأخير، وخيارها المحبذ للعسكريين والسياسيين، وهويتها للمثقفين والمتعلمين، وسبيل الهجرتين الشرعية وغيرها، ومجلس استشارتها الدائم، وعندما قرر فريق الرئيس إجراء «مناورة الفحوص الطبية»، اختار جنيف السويسرية، على رغم أن الملف الطبي في باريس، وذلك حتى يضمن نجاح مناورته، ولا يحبطها الفرنسيون.
وعلى رغم الاستقلال، لم تفرّط الجزائر بفرنسا، والعكس صحيح. وعلى رغم نزعة الرئيس هواري بومدين للاشتراكية والتوتر مع باريس، لم تتعثر مشاريعها في البلاد. وعلى رغم تعريبه النظام والثقافة والحياة، بقيت اللغة الفرنسية لسان المسؤولين والجامعات والمدارس والناس. يعرف الجزائريون أن بلادهم جوهرة التاج الفرنسي في أفريقيا، وبوابة باريس السياسية والاقتصادية والثقافية إلى القارة. العمق الفرنسي لم يهتز في الجزائر، وما زالت لباريس اليد الطولى في اقتصادها، باستثمارات تخلق فرصاً وظيفية، وبإسناد جامعاتها للحفاظ على اللغة الفرنسية، فذلك إرث تركته عام 1962 وما زال يدر عليها الأرباح، بالنفوذ السياسي والثقافي والاجتماعي. غادرت بندقية المستعمر الفرنسي، وأبقى على لغته وأفكاره وثقافته ومرجعيته، عاشتها وتعيشها الجزائر حباً وكرهاً، ولم تفرط بها يوماً.
علاقة الحب والبغضاء تمضي على هذا النحو منذ عقود، وتتجلى هذه المشاعر المتضادة في عالم السياسة الظاهر من دون الباطن بين البلدين، وما يسعى إليه الجزائريون من تعليم جيد وفرصة عمل. وفرنسا تعي أثر الحجم الجزائري على أرضها، أنهم أكثر العرب عدداً، وأقلهم انسجاماً مع غربة اختاروها، وتلك معادلة الحب والبغضاء في قلب واحد. استوعب الرئيس إيمانويل ماكرون المعادلة، فغازلهم مرتين؛ في حملته الانتخابية، وعندما زار بلادهم الجزائر.