منذ فترة ليست بعيدة كتبت مقالاً عن «الحرب المنسية» في أفغانستان في صحيفة الشرق الأوسط (12 ديسمبر 2018) رصدت فيها معاناة الشعب الأفغاني في حرب استمرت ستة عشر عاماً، بكل ما فيها من خسائر وضحايا ولاجئين ونازحين.
يبدو أن هذه الحرب سوف تصل إلى نهايتها قريباً، بعد أن جرت المفاوضات بين طرفي الحرب: الولايات المتحدة الأمريكية، ومنظمة طالبان الأفغانية.
نتيجة هذه المفاوضات خرجت إلى العلن مؤخراً، وفحواها أن التحالف الغربي سوف يخرج من «مقبرة الإمبراطوريات» مقابل تعهد طالبان بعدم استضافة التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش إلى أراضيها.
الاتفاق على هذا النحو لا يمثل أقل من قبول واشنطن بالهزيمة في الحرب الأفغانية دون مكسب من أي نوع، لأن تعهد طالبان يكون كمن قطع من لا يملك عهداً لا يستطيع بالضرورة الوفاء به لأن التنظيمات الإرهابية اعتادت العيش في أفغانستان سواء أرادت الحكومة الأفغانية ذلك أو لم ترد.
ووجود طالبان ذاته يبرهن على هذه الحقيقة فقد استطاعت خوض حروب عدة ضد جماعات كثيرة، بما فيها تلك التي ساهمت في هزيمة الإمبراطورية السوفييتية (1978-1989)، وبعدها الفوز بالعاصمة كابول بعد حرب أهلية ضروس مع قوى الدولة وتنظيمات «إسلامية» متنوعة (1989-1996) ومن بعدها الحرب ضد «التحالف الشمالي» بقيادة شاه مسعود حتى دخلت القوات الأمريكية إلى أفغانستان في أعقاب العمليات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001.
نجحت طالبان رغم الضغوط العسكرية الهائلة من الولايات المتحدة وحلفائها واستطاعت البقاء رغم تراجعها المستمر، إلا أنها ومع بداية التراجع الأمريكي في إدارة أوباما فإنها عادت مرة أخرى إلى الاستيلاء على أكثر من نصف البلاد مع إدارة ترامب، وعندما تخرج أمريكا من البلاد سوف تكون أفغانستان قد أضافت هزيمة إمبراطورية أخرى إلى قائمة انتصاراتها.
ومع ذلك فربما كان هذا النصر لا يعني الكثير للشعب الأفغاني الذي شهد مئات الألوف يسقطون ضحايا، وملايين الجرحى.
المدهش في الأمر، أن الولايات المتحدة قد استجابت لطلب طالبان باستبعاد الحكومة الأفغانية الشرعية من المفاوضات، وأكثر من ذلك فإن الإدارة الأمريكية أعلنت عن سحبها 7000 جندي أمريكي، أو نصف القوات الأمريكية في أفغانستان، مما أعطى الإشارة إلى أنه أياً كانت نتيجة المفاوضات فإن الولايات المتحدة سوف تنسحب من أفغانستان.
الرئيس الأفغاني أشرف غني احتج كثيراً على استبعاده، واحتج أكثر على نتيجة المفاوضات التي تضعه في مواجهة مباشرة مع طالبان التي لديها سجل مروع من الكراهية والرفض لكل أنواع الحداثة والانتخابات والديمقراطية.
وإذا كانت الحكومة الأفغانية وقواتها العسكرية قد فشلت وهي التي حصلت على الدعم الكبير من حلف الأطلنطي وقواته، فماذا سوف تفعل وقد باتت المواجهة مع طالبان مباشرة؟ وباختصار شديد فإنه لا يوجد توازن للقوى، ولا أرضية مشتركة بين الحكومة المنتخبة وطالبان، ومن ثم تعتبر حكومة أشرف غني من جانب طالبان حكومة عميلة، ولكن القصة الأفغانية هكذا لا تنتهي تماماً، فما زال هناك القليل المعروف عن القوى الأفغانية الأخرى، وعلى الأقل فإن المعروف أن أحد نجومها القليلين قطب الدين حكمتيار أعلن أنه ينوي الترشح لرئاسة الجمهورية؛ ولكن لا يوجد ما يدل على أن طالبان سوف تقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية بعد أن اصطفتها الولايات المتحدة بالتواصل والمفاوضات على حساب حلفائها الأفغان.
المهم في الأمر أن دونالد ترامب سوف يسرع من عمليات الانسحاب من أفغانستان الذي لا يرى فائدة أو مصلحة أمريكية في البقاء فيها أياً كانت آراء وتفضيلات الحلفاء في حلف الأطلنطي.
والمسألة هي أن الخروج الأمريكي من أفغانستان دون ترتيب الأمر مع الحكومة الأفغانية، ومع بدايات الانسحاب من سوريا، لن يخلق فراغاً استراتيجياً عميقاً في المنطقة فقط، وإنما سوف يفتح الباب لتجهيز قاعدة إرهابية هائلة بالسلاح والمخدرات والبيئة الطبيعية المناسبة لحركة الإرهابيين.
المزعج أكثر أن هذه التطورات تحدث في الوقت الذي أصبحت فيه العلاقات الأمريكية الصينية في أسوأ حالاتها، وعلى أي الأحوال فإنه لا الصين ولا روسيا بالطبع تريدان التورط في «المستنقع الأفغاني».
باختصار فإن أفغانستان سوف تصبح لهم مركزاً جديداً تتجمع فيه قوات الإرهاب التي تبحث عن ملاذات جديدة بعيدة عن مواقع هزيمتها في سوريا، وتعد أفغانستان منطقة أكثر تجهيزاً، وربما استعداداً، للاستضافة مقارنة بالمناطق الجدباء في الصحراوات الأفريقية الصعبة.
والحقيقة أن أفغانستان ليست بعيدة كثيراً عن الشرق الأوسط، بل إنها في قلبه إذا ما أخذ في الاعتبار التركيبة الأيدلوجية الشمولية لجماعة «طالبان» التي لا يبدو أن الأيام والمعاناة قد غيرتها؛ «طالبان» العائدة بمثل ما كانت وحشيتها السابقة، والتي تدخل في منافسات خاصة بالوحشية مع جماعات إرهابية أخرى، سوف تكون مهمتها الأولى هي «عودة الانضباط» الديني للشعب الأفغاني مرة أخرى.
أما مهمتها الثانية فسوف تكون باكستان القريبة، التي توجد لديها طبعتها الخاصة من «طالبان»، التي قد يكون التحالف معها أولى الخطوات للتعامل مع الحكومة الباكستانية الجديدة بقيادة عمران خان.