نون لايت

صالح السيد يكتب: لماذا وقعت الجريمة ؟!

هي امرأة جميلة،ليست لأن ملامحها فاتنة فحسب ؛ وإنما لأنها قلب مفعم بالمشاعر النبيلة ، وروح تتوق إلي العطاء الخالص، ورجل فصيلة دمه قائد، جيناته الإقدام والشجاعة،التضحية والبطولة توجتها انتصارات عديدة وصبغته بكبرياء عظيم، جمعهما حب عميق وزواج فريد ، ويأتي السؤال السافر الساخر لماذا وقعت الجريمة؟! كيف امتدت يده في لحظة إثم كبرى فانتزعت الروح الطاهرة من الجسد البرئ، ثم ارتدت في لحظة كشف مريعة، فاقتصت لها منه، ومنحه سيفه الرفيق طعنته الأخيرة، فغادر العالم قاتلا مقتولا ، آثما بريئا ، جانياً وضحية ، إنها الدراما الإنسانية الخالدة مسرحية « عطيل» للكاتب الكبير وليم شكسبير

ولكن ما هي طبيعة الصراع الدرامي في عالم المسرحية ، يرى الدكتور رشاد رشدي أنه ينبني علي المفارقة ، وهي مفارقة ليست في اختلاف شخص عن شخص آخر أو قيمة عن قيمة أخرى ولكنها في الاختلاف مع الاتفاق في الجهل مع العلم في عدم المشاركة مع المشاركة .  «عطيل» و «ديدمونة » مثلا متفقان في أن كلا منهما يحب الآخر وهما يعلمان ذلك ولكن داخل هذا العلم يكمن الاتفاق ويكمن الاختلاف فديدمونة تحب عطيل بدون أية تحفظات وهي واثقة من حبها وفي حبه لها كل الثقة ، أما عطيل فرغم حبه الكبير لديدمونه ورغم حبها الكبير له إلا أنه يختلف عنها في أنه غير مكتمل الثقة في حب ديدمونة له لأنه يعتقد إنها لا تحب منظره قدر ما تحب عقله ولعل السبب يرجع الي نفسه أو إلى كونه من جنس آخر غير جنسها .

 علي أننا اذا أردنا أن نضع عنواناً للمسرحية وموضوعاً تتجسد فيه فإنه ( الغيرة ) تلك التي أنشبت أظافرها النارية في صدر « ياجو» لأن قائده « عطيل» فضّل عليه زميله « كاسيو » فجعله نائباً له لقد أراد « ياجو » أن يتخلص من زميله « كاسيو » وان يحطم قائده « عطيل » في آن واحد فنسج خيوط مؤمراته الآثمة،إن ثمة خيانة تتم بين « كاسيو » وزوجته « ديدمونه » وقد نجح في ذلك ومن ثم فإن الغيرة انتقلت إلى « عطيل » ولأنه رجل عسكري فإن قيم الواجب والشرف هي القيم الراسخة في عقيدته وكان لزاماً علية ان يقتص منها وكما يقول « إن موتها حتم والا خانت رجالاً آخرين» .

ويأتي حوار المسرحية متفرداً علي نحو خاص ليس لأنه يكشف عن طبيعة الشخصيات ويطور الحدث ولكن لأنه يشف عن المقدرة  الفنية العظيمة  عند الكاتب الكبير وليم شكسبير

إنه يصف المنديل  الذي أهداه إياها واستخدمه « ياجو » في مؤمراته  قائلا عطيل :

  • إن في نسيجه سحراً وما نسجته إلاّ عرّافة شهدت دوران الشمس مائتي مرة أما الديدان التي نسجت حريره فقد كانت مّرقية أيضا وأما الحرير فقد صُبغ بعصير الموميات مستقطراً من قلوب العذاري .

وعندما يحتدم الصراع بين « ديدمونه » و «عطيل »ويعتقد إنها خانته مع «كاسيو » يصرخ قائلا

  • لو أنه طاب للسماء أن تمطرني أشد البلايا وصنوف الآلام والمعرّات وأن تغرقني في الفقر وان تسومني الأسر وخيبة الآمال لوجدت في زاوية من نفسي موضعاً للصبر ولكن … يا للحيف !! لا صبر لي علي أن أكون تمثالا يرمقه الزمان ويشير اليه الاحتقار بأصبع يرفعها علي مهل .

لكن النهاية ينبغي ان تأتي سريعا  ويدخل « عطيل »  المخدع علي «  ديدمونه »  وقد أزمع أمراً وعندما رآها نائمة تردد قليلا ولكنه كان  قد عقد النية علي قتلها ويحدّث نفسه  أريد أن أتنشقها … يا للعرف الطيب الذي يكاد يقنع العدل بكسر سيفه وهنا تستيقظ « ديدمونه » وتوجه الخطاب اليه

  • من هنا ؟ عطيل ؟
  • هل صليت الليلة يا ديدمونه
  • نعم يا سيدي
  • إذا كنت تتذكرين لك ذنباً فاستغفري منه حالاً
  • ويلاه يا مولاي ما معني هذه الكلمات
  • فكري في خطاياك
  • لا إثم لي إلاّ هواك

هاهي تلقي حتفها علي يد قلبها إنها تلوذ الي هواها وتبتهل الي قلبه وهو يلوذ الي شكوكه وهواجسه وتتملكه رغبة الثأر فيصم أذنيه فجأة ثم يلفها في ملاءة فراشها ويقتلها خنقا .

وفي هذه اللحظة يؤتي « بكاسيو »  الي القصر مجروحاً ينزف الدم من جرحه وتتكشف مؤمراة « ياجو» ويتبين « عطيل » الآن حقيقة الموقف وأن زوجته « ديدمونه » كانت طاهرة وفية له الي آخر لحظة من حياتها وآلم ذلك قلبه فارتمى على حد سيفه والقى بنفسه على جسد زوجته الشهيدة المظلومة وترددت مع أنفاسه الأخيرة كلماته الخالدة  :

« لقد خدمت البلاد بعض الخدمات وأرغب اليكم – حينما تقصون قصتي في رسائلكم أن تذكروني بحقيقتي لا بمزيد ولا بنقصان والا تدخلوا فيها شيئا من المكر السيئ ، فاذا فعلتم وصفتم حال رجل لم يعشق بتعقل ولكنه خالص السريرة متجاوز الحد في حبه ، رجل دافع الغيرة عن نفسه جهده ، فلما تمكنت منه تمادي فيها الي النهاية ، رجل غلب الآسى عينيه – ولم تكن من شيمتها البكاء – فذرفتا من الدموع أغزر مما تنضحه أشجار جزيرة العرب من صمغها الشافي … هكذا أرجو ان تصفوني»

إن  شخصية  «عطيل »  لم تعد  مجرد شخصية مسرحية وإنما صارت  أنموذجا إنسانياً محفوراً  في ذاكرة البشرية،إنها إضافة الي خبرة الإنسان وامتداداً لتاريخه وهكذا الأدب الإنساني الذي يجعلنا نرى الإنسان في ضوئة مزيجاً عجيباً من المتناقضات،يجمع بين الخير والشر بين خلود الآلهة وفناء البشر .     

           

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى