لا تخرج الجزائر عن الإجماع العربي في قسوة تبدل رؤسائها، إذ لم يُتم رئيس واحد فترته بسلام، ووفق دستور يحترم، فعرفت انقلاباً وموتاً غامضاً وإقالة واغتيالاً واستقالة مُجبرة، إلى أن بلغنا هذا المشهد الحاصل اليوم.
ولأنه نظام أتى عبر ثورة، فقد حكمه الثوار منذ 57 عاماً إلى اليوم، والرئيس عبد العزيز بو تفليقة آخرهم، ولم تعرف البلاد رئيساً مدنياً واحداً.
بدأ المشوار مع الرئيس أحمد بن بلة، جاءها من رئاسة أول حكومة بعد الاستقلال عام 1962، أمضى عاماً وفيه أعلن الدستور، ودفع به الرفاق رئيساً، لكنهم لم يتحملوا رئاسته، وانقلبوا عليه بعد عامين. تماماً مثلما جرى في مصر، بالأسلوب ومدة العامين، بانقلاب جمال عبدالناصر على محمد نجيب، أول رئيس للثورة. ومنذ ذلك اليوم والجيش يحكم في الجزائر، وإن تراجع قليلاً في ختام ولاية بو تفليقة الحالية.
ولأن الثوار قساة على رفاقهم، فقد سجنوا أحمد بن بلة 15 سنة بلا سبب، سوى خشية استعادته السلطة، والسجان ليس سوى رفيق دربه وأقرب الناس والمنقلب عليه، وزير دفاعه هواري بو مدين، إذ صار رئيساً وقائداً بما يشبه عبدالناصر في مصر؛ صنع الشخصية الجزائرية بعد الاستقلال، وعسكر البلاد تماماً، وزاد عليه أن حول بلاده قبلة ثوار العالم، وتجاوزه بتحويل النظام من ثوري إلى مؤسساتي، ولم ينشغل بتصدير أفكاره أو خوض مغامرات إقليمية.
لم يمهل القدر بو مدين طويلاً، إذ أصيب في قمة دمشق بمرض غامض لم يشخصه أحد، فرحل صغيراً عن 46 عاماً، ليصعد الفراغ سريعاً، لأن النظام بلا وريث معلن، فلا نائب للرئيس، ولا آلية محكمة تضمن سلاسة انتقال الحكم، وكل شيء يتم داخل مؤسسة الجيش، فأصبح مزاجها عرفاً لهوية الحكم، باختياره الرئيس ومباركته. ولذا، عندما اشتد به المرض، رشح الشاذلي بن جديد وزيراً للدفاع، لتكون طريقه إلى الرئاسة. وقد صدم الخيار عبدالعزيز بو تفليقة بعد أن هيأ نفسه، فهو الأقرب للراحل، وألقى كلمة الوداع في التشييع، وظهر بمثابة الوريث الشرعي.
خالف الرئيس الشاذلي بن جديد توقعات المؤسسة العسكرية. عاقب المرحلة السابقة، وانفتح على الإسلاميين لمواجهة الاشتراكيين، وضغط على الحريات، فتفشى الفساد، وتراجع الإنتاج، وحدث شغب عام 1988 في العاصمة والمدن، وانفرط الوضع، ونزل الجيش، وواجه الشغب، وقتل الأطفال. سعى الرئيس لاحتواء الأزمة، فأقر تعديلاً دستورياً غير منضبط، سمح للإسلام السياسي بالتكشير عن أنيابه. وتحت شعار «الإسلام هو الحل» دخل الإسلاميون الانتخابات البلدية وفازوا، واستعدوا لتطبيق الشعار في الانتخابات البرلمانية المرتقبة، بداية من الكفر بالديموقراطية، وسبقها توتر وخوف شديدان في الشارع، لتنخفض المشاركة، وتأتي نتيجة لم تعبر عن الجزائر.
استقال الرئيس الشاذلي بن جديد فوراً بأمر الجيش، واختار محمد بو ضياف للقيادة، إذ إنه شخصية وطنية من قادة ثورة الاستقلال، على رغم انتمائه لتيار مخالف للراحل بو مدين، ويبدو أنه خرج عن المسار المطلوب، وعيّن الوطنيين، وطالب بإعادة الأموال المهربة للخارج، وقبله الشعب قبل العسكر، ليردى بعد 5 أشهر قتيلاً على يد حارسه، وعلى مرأى الجمهور في المسرح.
جاء الرئيس اليمين زروال، وعبر الجيش مثل سابقيه، رئيساً موقتاً، وبعد عام منتخباً، وقبلها حاول فتح قناة تواصل مع جبهة الإنقاذ الإسلامية لوقف الدماء. لم يستكمل مدته، واستقال بعد ثلاث سنوات ونصف.
مع عام 1999 كانت الجزائر في أسوأ حالاتها؛ بلد مظلم مزقه الإرهاب، وعبثت فيه القوى الكبرى، وبات مشلولاً، فكان اختيار عبدالعزيز بو تفليقة الأنسب للمرحلة، ليتم عشر سنوات ذهبية برصيد شعبي عالٍ، استنزفه في العشر الثانية، والنتيجة حاله وحال بلاده اليوم.