في خطابه السنوي عن حال الأمة أمام مجلس الاتحاد في العشرين من فبراير المنصرم كان هناك تحد ظاهر في اللهجة التي صاغ بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلماته.
لهجة التحدي هذه غير مستغربة في سياق تصاعد التوتر في العلاقات مع الغرب عموماً ومع الولايات المتحدة بشكل خاص.
الولايات المتحدة وعلى لسان رئيسها تتهم روسيا بأنها عمدت ومنذ العام 2014 إلى تصنيع صواريخ وتقنيات إطلاقها في خرق لاتفاقية عام 1987 التي وقعت مع الاتحاد السوفيتي والتي تعهد الطرفان بموجبها بـ (عدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة).
وبتدمير كافة منظومات الصواريخ التي يتراوح (مداها المتوسط بين 1000-5500 كيلومتر ومداها القصير ما بين 500-1000 كيلومتر) هذه الاتفاقية استمرت لعدة عقود ضماناً أمنياً جوهرياً للقارة الأوروبية، فقد صيغت بنودها خصيصاً لإبقاء الصواريخ النووية الأرضية بعيداً عنها.
واشنطن تقرر في ضوء هذا الاتهام تعليق العمل بتلك الاتفاقية بدءاً من الثاني من فبراير المنصرم كمقدمة للانسحاب التام منها بعد ستة شهور ما لم تعود روسيا إلى الالتزام بها من خلال تدمير الصواريخ وقاذفاتها والمعدات الأخرى المرتبطة بها خلال هذه الفترة.
واشنطن إذ تضع هذا الشرط للتغاضي عن الاتهام تبدي في الوقت نفسه استعدادها الدخول في مفاوضات مع موسكو للحد من التسلح وإقرار اتفاقية جديدة وفق معايير جديدة. موسكو من جانبها تنفي هذا الاتهام وتعزي الرغبة الأمريكية بالانسحاب من الاتفاقية كجزء من استراتيجية إدارة الرئيس ترامب للتملص من الالتزامات القانونية الدولية.
الناتو وفق سياقات الأحداث سيقوم بإعادة نشر الصواريخ النووية في أوروبا بعد انتهاء المدة المذكورة والرئيس الروسي في خطابه يحذر الناتو مهدداً باستهداف دوله واستهداف الولايات المتحدة نفسها في حالة القيام بذلك. الموقف آخذ في التعقيد ما لم يصار إلى التهدئة خاصة أن الأوروبيين ليس في مصلحتهم عودة الأوضاع إلى ما قبل اتفاقية 1987.
لهجة التحدي والتهديد في خطاب الرئيس بوتين يصعب تفهمها بمعزل عن الرؤية الروسية وتقييمها للمشهد السياسي الدولي الذي يعكس ضعف موقف الرئيس الأمريكي أمام المؤسسات السيادية بعد سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب ويعكس كذلك حالة الانقسام في الغرب على قاعدة خلافات في المواقف حول قضايا جوهرية عديدة وصلت إلى حد إبداء الرغبة علانية على مستوى زعامات أوروبية بارزة بخلع الوصاية الأمريكية والدعوة لتشكيل جيش أوروبي.
على المستوى السياسي هناك ما يدعو للتوقف عنده والتساؤل حول مستقبل هذا التشنج بين واشنطن وموسكو؟ وهل تتمكن روسيا من الحصول على موقع دولي أفضل في حالة رفع سقف تحدياتها؟ وهل هناك أسس صلدة للرهانات على تصدع المؤسسة الغربية؟
من المستبعد أن تعير القيادة الروسية أهمية للشروط الأمريكية هذه، فخطاب الرئيس بوتين لا يساعد إلا على هذا الاستنتاج وهو ما سيقود إلى سباق تسلح جديد في أوروبا لا يقتصر على الولايات المتحدة وروسيا بل سيشمل دول الناتو والصين وربما دولاً أخرى وهو ما سينعكس سلباً على الأوضاع الاقتصادية لهذه الدول.
حيث من المتوقع أن تكون روسيا الأكثر معاناة سيما وأن اقتصادها يمر بمتاعب لم يخفيها الرئيس بوتين في خطابه الذي اعترف فيه بأن «تسعة عشر مليون شخص يعيشون اليوم تحت خط الفقر» أي ما يساوي 13% من الشعب الروسي.
التشنج في العلاقات بين واشنطن وموسكو مرشح للمزيد من التصعيد لأن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة منذ نهاية حقبة الحرب الباردة تستند إلى هدف جوهري وهو عدم السماح ببروز قوة عظمى أخرى وهو ما ترفضه دول أخرى ترى في قدراتها الحالية أو بما سيتوافر لها في المستقبل ما يؤهلها لموقع دولي أفضل.
في مقدمة هذه الدول روسيا التي بدأت بالسعي لذلك «وهي مكلومة» مع صعود الرئيس بوتين إلى سدة الحكم عام 2000 وهو ما تعمل الولايات المتحدة على إضعاف فرص ذلك.
ثمة مدخل آخر غير خاف على أحد يضمن لأوروبا أمنها وليس بالضرورة اتفاقية 1987 التي باتت تترنح أو أية اتفاقية أخرى جديدة، ألا وهو تعزيز التعاون الاقتصادي والمزيد من التشابك في المصالح مع روسيا، فخطوط الغاز الروسي التي تغذي عدداً من دول الناتو والتي لا بديل لها في المستقبل المنظور خير ما يضمن ذلك.