يزعم أنه شعب متدين بالفطرة.. أو هكذا يدَّعي! غير أن الواقع المرير يشير إلى عكس ذلك، لأنه يعيش حالة من الارتباك تنتابه، كلما واجهه أحد بحقيقته التي لا يريد الاعتراف بها!
رغم أنه يواجه تحديات قاسية تنوء بحملها الجبال، لكنه يعيش في غيبوبة – بإرادته أو مُكرَهًا – تجعله يعاني ازدواجية مفرطة، ظاهرها «التدين» وجوهرها أقنعة زائفة، تعميه عن رؤية الحقيقة!
بالطبع لا نتحدث عن وطن بأكمله، لكننا نعني شريحة لا يُستهان بها، تستسيغ الكذب والخداع، وتفضل العيش دائمًا في مهرجانات النفاق، لأنها لا تمتلك عقيدة راسخة أو أصولًا ثابتة.. أو حتى قواعدَ معروفة.
أسهمت تلك الفئة، في تأصيل سلوكيات سلبية، ساهمت في توسيع انتشار رقعة تزييف الوعي، والقضاء على ما تبقى من ضمائر حيَّة، لينتشر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم!
مع هذه «الزمرة» نعيش زمانًا عقيمًا تصاعدت فيه قيمٌ متناقضة.. شهدت تحولًا وتبدلًا في نسقها ومفاهيمها، لتخلِّف سلوكيات أثَّرت بشكل مباشر على حياتنا، في تناقض واضح وصارخ، بادعاء أننا شعب متدين بالفطرة!
المحصلة إذن، مجتمع عريق يحمل إرثًا حضاريًا زاخرًا وثراءً وتنوعًا، لكنه يتفنن في الإقصاء وتجاهل ثقافة الحوار.. يزعم القيم الاجتماعية واهتماماته فارغة.. يؤكد على الجماعية ويميل للفردية.. يؤمن بالتوكل ويلجأ للتواكل.. يتحدث عن الديمقراطية ويمارس الديكتاتورية.. ينتقد النظام سرًا وعلانية ولا يُصلح من نفسه أولًا!
مأساتنا أعمق من تجميلها بكلمات لا تسمن أو تغني من جوع، لأن مشكلتنا ـ كما يقول جبران ـ «نتزوج ولا نحب، نتكاثر ولا نربي، نبني ولا نتعلم، نصلي ولا نتقي، نعمل ولا نتقن.. نقول ولا نصدق»، لكننا نتصور أننا نأكل أكثر مما نتج، ونتكلم أكثر مما نفعل، وندَّعي الحق وهو عين الباطل، ونتصنَّع التقوى رغم اقترافنا الموبقات، ونخشى الناس.. والله أحق أن نخشاه!
نعتقد أن أحوالنا لم تتغير عن ذي قبل، بل زادت نكوصًا وترديًا.. حيث تفاقمت السلبيات إلى أضعاف مضاعفة، وتوهمنا أن القادم أفضل، بعد إزاحة «كابوس الرجعية»، فإذا بالأوضاع تنزلق إلى هاوية خطيرة.. يومًا بعد يوم، من دون أن نعلم أن الربيع الأخضر لا شك متبوع بخريف أصفر!
لعل تاريخنا الطويل، المتجذر في الاستبداد، منذ عصور الفراعنة، أفرز علاقة مريضة بين الدولة والمجتمع.. بين النخبة والعامة، حتى أصبح الأمر أشبه بامتلاك الدولة للمجتمع.. ترعاه كطفل وتتحكم به مثل الجارية.
الواقع البائس أن المجتمع أصبح يعيش تقريبًا في حالة موت سريري، أو على الأقل في غيبوبة شديدة من البلادة والنفاق والفساد وانعدام الضمير، نستطيع تلمسها تقريبًا في كل ما يحيط بنا، إيذانًا بانزلاق سريع نحو الهاوية!
غابت المسؤولية والمساءلة، وتداعت القيم بموت الضمائر التي لاذت بالصمت غير المبرر، والنتيجة إعادة تكريس الخلل المجتمعي، لكن في الاتجاه المعاكس، حيث تم الانتقال مباشرة من تغول الدولة إلى تغول المجتمع، الذي بدوره يعاني استمرار كثافة الأزمات التي عاشها وتجرعها.. جهلًا وفقرًا ومرضًا!
ربما لا نجد تبريرًا لحالة النفاق السائدة في المجتمع، أو تفسيرًا لبشاعة دهس القيم، وما يستتبعها من ابتزاز وأنانية وفوضى، إلا بجملة واحدة «أننا بالفعل نعيش مرحلة من الانحطاط المجتمعي».
أخيرًا.. بقدر ما نحتاج إلى نظام قوي ورشيد، قادر على أن يُقنع شعبه، بتحقيق إنجازات حقيقية ملموسة.. يمنح الأمل ويرسخ قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، إلا أننا بالضرورة في أمسِّ الحاجة إلى شعب واعٍ، يستطيع استعادة أفضل موروثاته ليتجاوز المِحَن والتحديات.
Zaher3333@gmail.com