نون: القاهرة
انتشرت مقاهي السمر والتسالي في جميع أحياء القاهرة، بعدما فقدت روحها الثقافية وتحولت من منابر للوطنية وملتقى للشعراء والمفكرين إلى تجمعات للسمر والتسالي والنميمة وجلسات للعاطلين لشغل أوقات فراغهم وتدخين الشيشة!.
إحصائية أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مؤخراً أكدت زيادة أعداد المقاهي على مستوى الجمهورية حتى وصلت إلى 50 ألف مقهى، تحظى القاهرة وحدها بما يزيد عن 10 آلاف مقهى وتليها محافظة الجيزة ب 5 آلاف.
وعلى مدى عقود عكست المقاهي الروح الثقافية للقاهرة، ومثلت ملتقى للمثقفين الأدباء والمبدعين، ونادراً ما وجد كاتب مصري، إلا وكان للمقهى حيز في كتاباته، وقد تجسد ذلك جلياً في إبداعات الأديب العالمي نجيب محفوظ وكثيرين من الشعراء والروائيين الذين ارتبطت بأسمائهم مقاه عديدة ليس في القاهرة وحدها وإنما أيضاً في المدن الكبرى مثل الإسكندرية.
وقد عُرف كل مقهى برواده الذين مثلوا بدورهم اتجاهاً فنياً وأدبياً بعينه، ولا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته المقاهي في شحذ الروح الوطنية ومقاومة المحتل الأجنبي، خصوصاً مقهى (متاتيا) الذي تحول بسبب خطب الشيخ جمال الدين الأفغاني إلى منصة إطلاق قذائف في وجه الاستعمار الإنجليزي، حيث كان هي المكان المفضل للشيخ وتلاميذه.
كما ضم مقهى دار الكتب في باب الخلق شاعر النيل حافظ إبراهيم والشاعر صالح جودت وعدداً من رفاقهما وتلاميذهما، وفيما بعد كان مقهى (عبدالله) في الجيزة هو المكان المفضل لمسامرات زكريا الحجاوي وعبدالقادر القط وعبدالرحمن الحسيني والكاتب الراحل محمود السعدني.
ثم عرفت الأجيال الأحدث مقهى (ريش)، حيث اعتاد أن يجلس رجاء النقاش وحجازي، وأمل دنقل ونجيب سرور وغيرهم، إضافة إلى الدور الفني الكبير الذي لعبته المقاهي في اكتشاف مواهب مصر الفنية كلها، ففيها غنت منيرة المهدية وفتحية أحمد وأم كلثوم والحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش وعبدالوهاب، ما يعني أن المقاهي كانت حالة فنية كاملة، ومصدراً لصقل المواهب وإجازة النابغين من الفنانين والأدباء.
ريش.. والذكريات
في مقهى (ريش) بشارع طلعت حرب، جلس صاحب المقهى يحكي تاريخه قائلاً: ليس هناك اسم لامع في عالم الفن والفكر والأدب والسياسة لم يتردد على (ريش) منذ الخمسينيات، إلا أن أحوال المقهى بدأت في التدهور منذ بداية الثمانينيات، واختلفت نوعية الزبائن ومستوى الرواد مما اضطررنا لغلق المقهى بعد مشادة بين اثنين من الرواد، انتهت بمعركة استخدمت فيها الكراسي، وبقي المقهى مغلقاً لمدة 10 سنوات.
وبعد إعادة افتتاحه عام 2000 بدأ الرواد يعودون، كما عاد مخرجون سينمائيون بارزون وأساتذة جامعيون يعقدون ندوات وحلقات دراسية أسبوعياً في المقهى.
ويعد (ريش) من أعرق وأقدم المقاهي الثقافية في القاهرة، بل في مصر كلها إلى جانب عدد من المقاهي الأخرى لم يبق لمعظمها أثر يذكر، وكانت بدايات المقهى عام 1908 عندما افتتحه ألماني اسمه «برنارد ستاتبرغ» ثم ما لبث أن باعه إلى الفرنسي (هنري ريسجيه) عام 1914 الذي أطلق عليه اسم (ريش).
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى باع الفرنسى المقهى لليوناني المصري (ميخائيل بيلتيس) الذي عرف عنه شغفه بالفنون والآداب على مختلف أنواعها، فأجرى توسعات في المقهى باتجاه شارع سليمان باشا المجاور ليتحول قسم من المقهى إلى مسرح غنائي وبات المسرح راسخاً في العشرينيات مع حصوله على ترخيص بالغناء من حكمدار بوليس مصر، حيث كانت إحدى الفرق تعزف فيه بشكل دائم وتميز برواده من الطبقة الارستقراطية المصرية الصاعدة آنذاك والأجانب أيضاً، ومن أبرز الفنانين الذين غنوا على مسرح كافيه (ريش) كوكب الشرق (أم كلثوم) عام 1923، وكان ثمن البطاقة 15 قرشا، وذلك بعد أن سبقها أستاذها الشيخ أبو العلا محمد والفنان (أنيس زكي مراد) والد المطربة (ليلى مراد) وشكلت تلك الأعوام بداية العصر الذهبي الذي استمر حتى سبعينيات القرن الماضي.
في «ريش».. كنا نحب المخبرين!
داخل (ريش) التقينا بجمال شاهي مراسل صحفي لإحدى الصحف الإنجليزية، كان يتناول فنجان قهوته كعادته منذ السبعينيات فقال: كنا نلتقي هنا بأساتذتنا من العظماء والمبدعين، وكنا نحب كل ما في هذا المقهى حتى المخبرين المندسين بين صفوفنا كنا نحبهم، كان يمكن أن تجد على هذه الطاولة «أمل دنقل» يغالب أحزانه وأمراضه، وهناك في آخر الصف يجلس (نجيب سرور) يشتم الدنيا ويسب من عليها، وكنا نسعد حتى بسماع صوته يشتم.
أما في هذا الركن المسحور فكان يجلس (نجيب محفوظ)، ورغم أرستقراطية (ريش) إلا أننا نحن جيل الشباب في ذلك الوقت كنا نرفع أصواتنا في الحديث حتى نلفت أنظارهم إلى مجلسنا.
ويضيف: الآن يبدو (ريش) مثل جزيرة تقدمية في محيط رجعي هادر وقد رفض أصحابها الانحناء للإغراءات، وأصروا على إبقاء المكان محتفظاً بنقائه وصورته الأولى، وقدرته على تحدي القبح، لافتاً إلى أن الصور التي على جدران (ريش) ليست أصناماً، بل شهادات حية ناطقة بذكريات المكان مع صوت الست «أم كلثوم» وحكايات (عباس الأسواني) و(صلاح جاهين) و(أمل دنقل) و(محمد عوض)، مؤكداً أن سر أصالة (ريش) هو أنه مقهى انتقائي في قبول من يدخله من زبائن.
ويقول جمال الغيطاني في كتابه (المجالس المحفوظية): «في (ريش) كان نجيب محفوظ مستمعاً أكثر منه متكلماً في الحديث بقدر، ويبدو مهتماً بالتعرف على الشبان الجدد، يتحاور أحياناً ولكنه يستمع في معظم الوقت».
مقهى البستان
على بعد أمتار من (ريش) يقع مقهى البستان، زحام شديد وجلسات سمر أشبه بساحة شعبية يقصدها الشارد والوارد، حيث تجد الشيشة والطاولة والدومينو، أجواء مغايرة تماماً لما يمكن أن تجده في كافيه (ريش).
صاحب المقهى برر تحوله مع العصر إلى حاجته للكسب باعتباره مشروعاً تجارياً عليه أن يلبي رغبات رواده.
من زهرة البستان إلى خان الخليلي، حيث مقهى الفيشاوي الذي تحول إلى معلم سياحي يتوافد عليه السياح لشرب الشيشة، يقول صاحب المقهى: أنشىء الفيشاوي قبل 240 عاماً مستمداً شهرته من منطقتي (خان الخليلي والحسين) اللتين تعدان أكبر المراكز التجارية، حيث يلتقي علماء الجمعة وفي بداية الخمسينيات بدأ كثير من الفنانين والأدباء في التردد عليه وعلى رأسهم (نجيب محفوظ) والحرافيش.
وقال: المقهى كان عبارة عن مجموعة من حجرات تطل جميعها على البهو الداخلي، وكان كل مبدع يختار واحدة منها للقاء أصدقائه كما حرص عدد من الباشاوات على ارتياد المقهى يوم الخميس من بينهم «مصطفى باشا النحاس».
مقهى (عبدالله)
وفي حي الجيزة حيث مقهى (عبدالله) الذي يقع في منطقة ساقية مكي، وكان يرتاده فارس التراث الشعبي (زكريا الحجاوي)، كما كان يرتاده (أحمد رشدي صالح) ومنه إلى مقهى (انديانا) بالدقي المعروف باسم ولاية أمريكية الذي انتقل إليه زبائن مقهى (عبدالله) ليبدأ هو الآخر مسيرته في تشكيل ملامح الحركة الأدبية المصرية أوائل الستينيات، وكان رواد هذا المقهى من أبناء الطبقة الوسطى الذين احتلوا فيما بعد مراكز اجتماعية مرموقة وصاروا نجوماً للصحافة والأدب.
السنترا
في ميدان الأوبرا كان مقهى (السنترا) في المكان نفسه الواقع به جراج الأوبرا الحالي بحي العتبة، وكانت تعقد به ندوات أدبية لنجيب محفوظ كل يوم جمعة ومقهى (متاتيا) ومكانه في ميدان العتبة من أشهر رواده (جمال الدين الأفغاني) والإمام (محمد عبده) وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي المحامي المشهور ثم ارتاده فيما بعد عباس العقاد وإبراهيم المازني والشيخ فهيم قنديل صاحب جريدة عكاظ التي كانت تصدر من القاهرة.
أجرافيش
ويعتبر مقهى (أجرافيش) أشهر ملامح ميدان التحرير سابقاً الذي تحول إلى معرض لبيع السيارات، على مقاعده القليلة التقى المثقفون في الأربعينيات من بينهم الراحل سيد خميس ومن رواد الشعر سيد حجاب والناقد إبراهيم فتحي ومحمود (المانسترلي) أحد الضباط الأحرار الذي كان صديقاً لعبدالناصر إلى جانب الأبنودي الذي كتب عن المقهى واحدة من أجمل قصائده.
الندوة الثقافية
وفي باب اللوق يقع مقهى (الندوة الثقافية) الذي يعد أحد الأماكن المفضلة للمثقفين وأهل الفن والصحافة والإذاعة والتلفزيون منذ السبعينيات وإلى اليوم، وهو مقر لتجمع عدد كبير من الكتاب والأدباء والصحفيين والفنانين الذين استمر ارتباطهم بالمقهى إلى الآن.
ومن أشهر الكتاب الذين كتبوا عن المقهى سمير سرحان في كتابه (المقهى) وجمال الغيطاني في كتابه (ملامح القاهرة في 100 سنة) ومحمد عبدالواحد في (طرائف الكلام).