نون والقلم

خالد القشطيني يكتب: سوق الهرج

تعددت الأسماء والسوق واحدة. يسمونها في بغداد سوق الهرج وفي الخليج يسمونها سوق الحراج. وهو من الأماكن التاريخية الشهيرة في بغداد. العراقيون يعرفونها أكثر مما يعرفون القصر الجمهوري أو المجلس الوطني. ومن يلومهم على ذلك، فهو المحل الوحيد الذي يستطيعون أن يتمشوا فيه بكل حرية ويتفرجوا على البضائع المستهلكة المعروضة للبيع بالمزاد. حظك بختك! بختك حظك! ينادي المنادي الدلال بأعلى صوته!

عُرفت سوق الهرج بعمليات النشل بسبب الزحام فيه. واشتهر النشالون فيه بحذقهم ومهارتهم. كان لهم رئيسهم الذي يعتد به ويعتزون بمهارته. تحداه يوماً مختار المحلة في هذا الشأن. قال إن العيب عيب الجمهور المغفلين. لو أنهم راقبوا جيوبهم لما استطاع النشالون سرقتهم. لإثبات ذلك لرئيسهم قرر وضع شلة من النقود في جيبه وقضاء ساعتين في السوق ليرى إن كانوا سيستطيعون سرقتها منه. لكنه زيادة في الاحتياط ولئلا يفقد فلوسه فعلاً وضع في جيبه عملات عثمانية ساقطة.
دخل السوق وقضى ساعتين يتجول فيها ثم خرج وفتش جيوبه فوجد كامل نقوده كما هي… قال لرئيس النشالين، ها هي النقود كاملة لم تستطيعوا سرقة أي شيء منها. فقال له: «يا مغفل! لقد أخذوها من جيبك خمس مرات ووجدوها بارات ساقطة فأعادوها إلى جيبك»!
بالنظر للنجاح المذهل الذي تمتع به هؤلاء النشالون، كان لا بد للسلطات أن تشاركهم فيه، كما تفعل دائماً. هكذا اعتادت الشرطة حينها على مقاسمة النشالين فيما يحصلون عليه. حدث أن توفق أحدهم إلى نشل محفظة نقود أحد زبائن السوق. راح صاحب المحفظة يصرخ ويستغيث: يا ناس أمسكوه! حرامي! نشل جزداني وفيه عشرة دنانير! يا أولاد الحلال. يا من شاف جزدان فيه عشرة دنانير.
أثناء ذلك كان اللص قد اختلى في زاوية خارج السوق وفتح المحفظة فلم يجد فيها غير ثلاثة دنانير. أعادها إلى المحفظة ثم تسلل راجعاً للسوق، وبحث عن الرجل صاحبها حتى إذا وجده سلم المحفظة إليه وقال له: يا رجل عيب عليك تكذب! تقول عشرة دنانير وليس فيها غير ثلاثة!
انصرف النشال لاستئناف عمله، لكن الشرطي الموكل في السوق لاحظ ما جرى فاقترب منه وقال: اسمع هنا. أنت مجنون. ليش رجعت الجزدان لصاحبه؟
فأجابه النشال قائلاً: يا سيدي العريف. هذا يقول عشرة دنانير والجزدان ما فيه غير ثلاثة. في آخر النهار أنت راح تحاسبني على عشرة وأنا ما قابض غير ثلاثة. أطلع خسران بهذي الشغلة. تريد مني حصتك بالنص. خمسة دنانير وليس أقل! والجزدان ما فيه غير ثلاثة. أحسن أرجعه لصاحبه وأخلص نفسي.
وهذي كانت أيام خير وفاتت. أيام كان الناس ينشلون الجيب ويسرقون محفظة، عشرة دنانير أو ثلاثة دنانير. في هذه الأيام يسرقون خزينة الدولة بملايينها فيما يسمونه بأيام فساد. يا ليتنا نرجع لأيام النشل في سوق الهرج… أيام خير وفاتت.

نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button