بعد إعلان «وثيقة الأخوة»، في الإمارات، بين البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، من جهة، وشيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، من جهة أخرى، تصاعد الحديث عن جدوى الحوار. الأسئلة لم ترد من المتطرفين بالديانتين، بل من متحذلقين يفهمون الحوار بطرقه التقليدية القديمة.
مع أن مفهوم الحوار تطور بعلم الاجتماع وجديد الفلسفة، إلا أن البعض لا زال يعتقد أن مهمة لقاء كالذي حدث بين البابا وشيخ الأزهر، وأثمر الوثيقة الآنفة، هو إنهاء قرون الصراع، وإرثها التاريخي، وكأنها لم تكن، وهو حلمٌ رومانسيٌ ممتنع الحدوث منطقياً. الوثيقة بمضمونها الإنساني، تخاطب العقلاء، والمؤسسات التربوية، والاجتماعية والدينية، وهي بداية لمشروع يحتاج استيعابه، لتضافر جهودٍ كبرى، من شتى الفعاليات والمؤسسات الإسلامية والمسيحية، على حد سواء.
خلال القرن العشرين، تطوّرت أخلاقيات النقاش، فالفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس (ولد1929)، وضع أطروحته حول أخلاقيات النقاش، وفعل التواصل العمومي،
وشدد على ضرورة نشر الحوار العمومي، باعتباره من الأفعال الأخلاقية.
مهمة الحوار ليست إنتاج حلٍ ثالث، ولا الرغبة بتحييد النزاع، وإنما جلوس طرفين لسماع بعضهما وهو يعد بحد ذاته فضيلة أخلاقية.
حينما يجتمع طرفان مختلفان الأول (أ)، والثاني (ب)، ليتحاورا، فإن فعل الحوار ذاته، تواصل محمود، وممارسة لفضيلة إنسانية.
ليس بالضرورة، أن يقنع (ب) (أ) برأيه، ولا العكس، فالثمرة، ليست فرضاً في المناقشة العمومية، وربط الحوار بالتوصل لنتيجة يتفق عليها الطرفان، فيه انتهاك وامتهان للحوار، باعتباره سلوكاً حضارياً من علامات التطور المدني والمجتمعي. على عكس ما تدرّب عليه البعض، من أنماط المناظرات التي تنتهي بإلزام طرف برأي الآخر، وهو ما لم يعد مصنفاً ضمن العمل المؤسسي المدني، وإنما يتفق عليها الأفراد فيما بينهم، لكنه لا يعتبر ضمن المفهوم الفلسفي الحديث للحوار.
لم يكن «هابرماس» مجرد منظّر لفعل التواصل، بل طبّقه شخصياً، مع البابا جوزيف راتسنجر (بينيديكت السادس عشر، المولود1927، وهو أول بابا يستقيل في حياته)، حيث تعرض لأكثر المسائل حساسيةً بين الطرفين. هابرماس منافح عتيد عن العلمنة والدولة والقوانين، والبابا مخالف له جذرياً بمسائل كثيرة.
تُرجم الحوار بعنوان: «جدلية العلمنة-العقل والدين»، وأشار المترجم، حميد لشهب، بمقدمة الكتاب، إلى الحوار بالمراسلة بين البابا بينيديكت الرابع عشر، والفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير، بالقرن الـ18.
يضيف حميد: «كان هابرماس هو السباق للحديث، وكان رايتسينجر، وهو يستمع له، مركزاً بطريقةٍ تامةٍ على ما يقوله، خُيّل لي، أنه كان ينتشي بمفردات هابرماس، لأنه اعترف في مستهل عرضه باستعداد الفلسفة التعلم من الدين… ويؤكد هابرماس بأن الفلسفة واعية بما فيه الكفاية بتعرضها للخطأ، وبوضعها غير القادر في المجتمع الحديث… إن المتمعن اليقظ لمداخلة رايتسنجر، لا يفوته أن يلاحظ بأنه بنى عرضه نسقياً أكاديمياً دقيقاً على لبناتٍ خمس، هي: النداء إلى الالتقاء، التعاون بين العقل والإيمان، التحديات الجديدة التي تواجه الإنسان، فكرة الحق الطبيعي كحق عقلي، التعدد الثقافي كفضاء لارتباط العقل والإيمان، العقل والإيمان مدعوان لشفاء بعضهما بعضاً».
الفكرة من هذا الاستشهاد، أن الحوار بين طرفين مختلفين، لا يقتضي تسجيل أحدهما النقاط على الآخر، ولا هزيمة مفترضة بين خصمين، بل الهدف شحذ الذهن، ومحاولة فهم الحجج لدى الآخر. فالحوار ليس مباراة نهائية، لا بد أن تنتهي بفائز وخاسر، ولو امتدت لضربات الترجيح!
أنت لست (أنا) دوماً، ولا يجب أن تكون، أنت آخر بالنسبة لمقابلك، والحوار دون تسجيل نقاط، ضرورية لتواضع الذات، أثناء ممارسة فضيلة الحوار أخلاقياً ومعرفياً.
في القرآن الكريم: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء»، وقد فسر الفخر الرازي، معنى «كلمة سواء» أي: «العدل والإنصاف». الحوار فضل ومزية، وهو من خصائص الإنسان التي يتميز بها عن بقية الكائنات، وهذا محور الاختلاف مع الذين يريدون للحوار أن ينتهي بركلات الترجيح!
222 2 دقائق