ليس بالأمر الجديد ولا الخفي على أي متابع للأوضاع في سوريا منذ تفجرت الاحتجاجات قبل ما يزيد على ثماني سنوات وتحولها إلى حرب إقليمية ودولية بالوكالة، نقول: ليس بالأمر الجديد أن تركيا تعد لاعبا رئيسيا ومؤثرا في هذه الأحداث، بغض النظر عن موقعها بين اللاعبين المختلفين وطبيعة الدور الذي تقوم به في هذه الأزمة الدموية التي ألحقت دمارا هائلا بمقدرات الشعب السوري الشقيق، ومن ثمَّ فإن تركيا على اطلاع تام على ما يدور على الأرض السورية ولديها الكثير من المعلومات شبه الموثوقة عما يجري على الأرض السورية من أحداث والدور الذي تقوم به مختلف الأطراف المؤثرة في هذه الأزمة، سواء كانت مؤيدة للحكومة السورية أو معارضة لها، فالأمر هنا يتعلق بحقيقة الأوضاع ومواقف هذه الأطراف.
قبل عدة أيام مضت خرج وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بتصريح في غاية الأهمية اتهم فيه ما وصفهم ببعض الشركاء في التحالف بدعم «هيئة تحرير الشام» (الفرع السوري للقاعدة)، أولا من أجل إلحاق الضرر باتفاقية إدلب حول وقف التصعيد في هذه المحافظة السورية، وثانيا لأن هذه الدول تبذل جهودا كبيرة لمنع تشكيل اللجنة الدستورية في سوريا، هذا الاتهام الذي يخرج عن مسؤول في دولة تعد عضوا فاعلا، ليس في الأزمة السورية فحسب، وإنما في التحالف الذي يفترض أن نشاطه موجه لمحاربة الإرهابيين في سوريا.
فجبهة النصرة التي يقول الوزير التركي إنها تحظى بدعم أطراف في التحالف لم يشأ الوزير تسميتهم، تعد واحدة من الفصائل الإرهابية التي تقاتل فوق الأراضي السورية وهي مصنفة بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي على أنها منظمة إرهابية، وهي كما سبق القول تعد الفرع السوري من تنظيم القاعدة الأم، ومن ثمَّ فإن دعم هذه المنظمة أو حتى الامتناع عن إدخالها ضمن دائرة الجماعات الإرهابية فوق الأراضي السورية يضع أكثر من علامة استفهام حول حقيقة الأهداف التي تتحدث عنها دول التحالف، وما إذا كانت صادقة حقا في محاربة الإرهاب أو أنها منخرطة في صراع مصالح مع قوى إقليمية دولية منغمسة هي الأخرى في الصراع الدائر فوق الأراضي السورية.
تركيا تواجه وضعا معقدا في الأزمة السورية في الفترة الأخيرة، فهي من ناحية دخلت في اتفاقات وتفاهمات مع الجانب الروسي، اللاعب القوي في هذه الأزمة والذي يصر على تصفية الإرهابيين في سوريا، وخاصة أن الآلاف منهم قدموا من الفضاء الروسي، وفي الوقت نفسه تواجه أنقرة تصاعد قوة خصومها الأكراد المدعومين من بعض أطراف التحالف وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا فليست هناك مصلحة لتركيا من وجود تنظيم إرهابي كبير وقوي مثل «النصرة»، فهي ترى أن أطرافا في التحالف الدولي لها مصلحة من وجود هذا التنظيم، ربما كورقة ضغط على تركيا ذاتها.
فهذه ليست هي المرة الأولى ولم يكن الوزير التركي هو المسؤول الأول الذي يثير مثل هذه الشكوك أو حتى الاتهامات لبعض أطراف التحالف الدولي فيما يتعلق بمصداقيتها في الحرب على الإرهاب في سوريا، فهناك لاعب آخر وقوي في هذه الأزمة وجّه مثل هذه الشكوك والاتهامات، فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تساءل أكثر من مرة وفي عدة مناسبات عن نوايا بعض الأطراف، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، من وجود قواتها فوق الأراضي السورية وعدم الجدية في محاربة الإرهاب، بل إن روسيا اتهمت واشنطن بمساعدة ونقل مقاتلي «داعش» من مناطق إلى أخرى.
مما لا شك فيه فإن هناك دوافع سياسية لمختلف الأطراف التي تقاتل أو توجد عسكريا فوق الأراضي السورية لاتهام خصومها والتشكيك في نواياها الحقيقية من وراء مثل هذا الوجود، لكن عندما يأتي الاتهام هذه المرة من تركيا، وهي العضو الفاعل في حلف شمال الأطلسي، فإن هناك علامات ومؤشرات قوية فاضحة للنوايا الحقيقية للأطراف التي يعنيها الوزير التركي، كما أن «محاربة» الإرهاب فوق الأراضي السورية، وخاصة «داعش»، لا تعدو أن تكون ورقة مساومة لتحقيق مكاسب سياسية من وراء الأزمة السورية.
ما كان للوزير التركي أن يطلق مثل هذه الاتهامات صوب أطراف، هم من الناحية العملية أقرب إلى تركيا، سياسيا وعسكريا، من غيرها من أطراف الأزمة السورية، وبغض النظر عن دور تركيا السلبي في إطالة أمد هذه الأزمة والدعم الكبير الذي قدمته للعديد من الفصائل المسلحة التي تقاتل الحكومة السورية، فإنه لا مصلحة سياسية لتركيا من وراء تفجير مثل هذه الاتهامات، فتركيا الآن في خانة المتضررين الذين يدفعون ثمن أخطاء مواقفهم من الأزمة السورية وعدم قراءة مجرياتها بدقة قبل استفحالها، فأنقرة -كما غيرها من الأطراف- اكتوت بنيران الجماعات الإرهابية، ليس من «داعش» فقط وإنما من غيرها من الأطراف مثل «النصرة».
جبهة «النصرة» تعتبر الآن أقوى الجماعات الإرهابية فوق الأراضي السورية، وخاصة بعد انحسار دور «داعش» التي تعرضت لخسائر كبيرة جرّاء الضربات القوية التي تعرضت لها من جانب مختلف الأطراف، وبعد الهزيمة الكبيرة التي لحقت بها في العراق، «النصرة» تسيطر تقريبا على محافظة إدلب السورية، وهناك اتفاق تركي روسي على تطهير هذه المحافظة من الجماعات الإرهابية، أي «النصرة» بالدرجة الأولى، وكما قال الوزير التركي فإن بعض أطراف التحالف الدولي تدعم «النصرة» لإفشال تنفيذ هذا الاتفاق، أي المحافظة على الوجود الإرهابي في هذا الجزء من الأراضي السورية للمحافظة على أمل استمرار المشروع التخريبي.