أضحت الهجرة ظاهرة أساسية مميزة للعلاقات الدولية في عالم اليوم، حيث تشير الإحصاءات والتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة إلى وجود نحو 240 مليون مهاجر ومهاجرة، على امتداد مناطق مختلفة من العالم، إضافة إلى نحو 740 مليون مهاجر ومهاجرة على المستوى الداخلي. ويتوزع المهاجرون بشكل غير متساو على الصعيد الدولي، منهم 97 مليون مهاجر من الجنوب نحو الشمال، و74 مليون في إطار الهجرة جنوب-جنوب، و37 مليون في سياق الهجرة شمال-شمال و40 مليون من الشمال في اتجاه الجنوب.
وعلى امتداد التاريخ الإنساني، استأثرت ظاهرة الهجرة بأدوار حضارية واجتماعية واقتصادية عدة، وما زالت انعكاساتها الإيجابية على التنمية قائمة؛ رغم الصورة القاتمة التي يروّجها عنها البعض.
وشكّل المغرب بلداً مصدراً للهجرة، ومعبراً ومستقبلا لها منذ عصور قديمة، بفعل انفتاحه؛ وبحكم موقعه الاستراتيجي بين قارتين؛ وعلى امتداد البحر المتوسط، والمحيط الأطلسي، وما زال إلى اليوم بلداً معنياً بالهجرة، بحكم قربه من أوروبا.
ويوجد عدد كبير من المغاربة في بلاد المهجر، كما يوجد عدد كبير من المهاجرين الأجانب بالمغرب، أكثرهم من البلدان الإفريقية، ما جعل الظاهرة حاضرة بقوة ضمن النقاشات السياسية والأكاديمية في البلاد.
إن استيعاب التحولات التي لحقت بالظاهرة في سياقها المغربي، تتطلّب فهم الديناميات الداخلية التي أسهمت في تطورها، وتلك التي فرضها المحيطان الإقليمي والدولي في العقدين الأخيرين، حيث تأثرت «الهجرة المغربية» بالسياسات الصارمة المتصلة بإغلاق الحدود التي باشرتها الدول الأوروبية منذ سنوات التسعينات من القرن الماضي، إضافة إلى الإشكالات الأمنية، والسياسية، والاجتماعية التي عاشت على إيقاعها العديد من الدول الإفريقية منذ هذه الفترة..
بدأت هجرة المغاربة نحو أوروبا في بداية القرن الماضي، لتتباطأ مع حصول المغرب على الاستقلال، قبل أن تتطور في بداية الستينات عندما كانت الدول الأوروبية بحاجة إلى سواعد لبناء اقتصادها الذي دمرته الحرب العالمية الثانية.
ويوجد حالياً أكثر من 3 ملايين مهاجر مغربي في الخارج؛ نحو 86 في المئة منهم يستقرون في أوروبا، و9 في المئة في الدول العربية، و5 في المئة منهم في القارة الأمريكية، وتعتبر فرنسا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا من الدول التي تحتضن عدداً كبيراً منهم.
وتساهم مداخيل المهاجرين المغاربة المقيمين بالخارج في إعالة عدد من الأسر وتوفير فرص شغل مباشرة، أو غير مباشرة، كما تساهم أيضاً بنسبة مهمة في ميزانية الدولة، وتقدّر التحويلات المالية لهؤلاء بنحو 3 مليارات دولار، أي بأكثر من 10 في المئة من قيمة الناتج الإجمالي الخام للمغرب.
وازدادت حدّة الإشكالات التي أصبحت تواجه الجاليات المغربية في أوروبا، على مستوى الاندماج، مع تصاعد اليمين المتطرف في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، ووجود نقص ملحوظ في المدارس العربية والمراكز الثقافية المغربية داخل هذه البلدان. ورغم التطور الملحوظ على مستوى السياسات العمومية، والتشريعات الداعمة لهذه الفئة في المغرب، وجهود مجلس الجالية المغربية في الخارج، إلا أن هناك مشاكل ما زالت مطروحة، سواء ما تعلق منها بالمشاركة السياسية، رغم أن الفصل 17 من الدستور يؤكد على المواطنة الكاملة للمهاجرين المغاربة، أو بعض تعقيدات الاستثمار، ونقص المواكبة الإعلامية لقضايا ومشاكل المهاجرين في أبعادها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
إن انتقال المغرب من بلد مصدّر للهجرة إلى مستقبل لها، هو أمر حديث العهد، ظهر مع التدابير الصارمة التي اتخذتها الدول الأوروبية في هذا الصدد، وتدفّق عدد من المهاجرين الأفارقة، وغيرهم، على المغرب.
ورغم التحديات الكبرى التي يطرحها الأمر بالنسبة للمغرب، مع نقص الإمكانات المادية والاقتصادية الكفيلة بالتعاطي الموضوعي مع الظاهرة، فقد سعى إلى سنّ العديد من التشريعات الداعمة لحقوق المهاجرين، وحرص على الاهتمام بشؤونهم، حيث قام بتسوية الوضعية القانونية لأكثر من ثلاثين ألف شخص، التزاماً منه باحترام المواثيق الدولية التي صادق عليها في هذا الخصوص من جهة (كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية لحماية العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، والاتفاقية المتعلقة باللاجئين).
كما تمّ إحداث أجهزة متخصصة في شؤون الهجرة ومراقبة الحدود، منها مديرية الهجرة ومراقبة الحدود والمرصد الوطني للهجرة. وعلاوة على هذه الجهود، واستحضاراً لكون الظاهرة عابرة للحدود، ظل المغرب يؤكد على أهمية وضرورة التعاون والتنسيق الإقليمي والدولي في هذا السياق بصورة تستحضر الجوانب الإنسانية للظاهرة والتعاطي معها بقدر من الشمولية.. والعمل على تحويل الظاهرة بما تنطوي عليه من إشكالات وتحديات إلى فرص..
وتظل جهود المغرب، وعلى أهميتها، بحاجة إلى محيط إقليمي ودولي داعم، وبخاصة أن معظم المهاجرين باتجاه المغرب يرون فيه بلد العبور قبل أن يتحوّل الأمر إلى إقامة نهائية.