في ظل الخلاف القائم بين رؤية مصر الواضحة لمستقبل القضية الفلسطينية، التي تؤكد حل الدولتين، وضرورة أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، ورؤية الولايات المتحدة المبهمة، التي تقتطع القدس من التفاوض بقرار أحادي منفرد، بزعم أنها عاصمة الدولة الإسرائيلية، يصعب الحديث عن تطابق المواقف الأمريكية والمواقف المصرية بعد زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو الأخيرة، التي أعلن فيها انتهاء ما وصفه بعهد التقاعس الأمريكي، وأن الولايات المتحدة تعمل في الشرق الأوسط قوة خير وتحرير وليس قوة احتلال، لكن ما من شك في أن اتساع مساحات التوافق الاستراتيجي بين القاهرة وواشنطن حول العديد من القضايا المهمة يُعد مكسباً مهماً للسياسة المصرية.
وعندما تُعيد الولايات المتحدة النظر في مواقفها السابقة، ويتكشف لها الصورة الحقيقية لمصر الملتزمة بقوة بحرية الأديان، وحق الجميع في أن تكون لهم كنائسهم ومعابدهم مع استمرار جهودها في اجتثاث شأفة الإرهاب، فإننا لا نملك سوى الترحيب الشديد بهذا الفهم الأمريكي، الذي يحسن التعامل مع مصر، ويتفهم مقاصدها الحقيقية، ويدرك طبيعة دورها قوة سلام واستقرار إقليمي تلعب دوراً محورياً في المنطقة، غايته تأكيد معاني التسامح والاعتدال والوسطية وتعزيز الوحدة الوطنية.
والأمر المؤكد أن زيارة وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو كاتدرائية ميلاد المسيح بعمارتها المُبهرة وأيقوناتها ورسومها، وتزامن افتتاحها مع مسجد الفتاح العليم فضلاً عن أن بناء الكاتدرائية تم بمبادرة من الدولة المصرية، وعلى نفقة خزانتها العامة، بما يؤكد للعالم أجمع رقي الدولة المصرية وعظمة الشعار، الذي ترفعه مصر عنواناً على مسيرتها الوطنية «الدين لله والوطن للجميع»، وأن الاستقرار الذي تنعم به مصر يستند إلي أسس راسخة تحفظ دوامه واستمراره يستحق دعم الولايات المتحدة ومساندتها، لأن المعركة مع التطرف والإرهاب لم تنته بعد، وربما يكون «داعش» قد تلقى بالفعل ضربات موجعة، لكن هذا التنظيم الإرهابي لايزال قائماً من خلال عناصره، وخلاياه النائمة تستثمر أي فرصة كي تطل برأسها من جديد.
وما ينبغي أن تعرفه الولايات المتحدة، وقد أعلنت بالفعل بدء الجيش الأمريكي سحب معداته من سوريا، أن قرار الانسحاب لا يزال يُثير ردود أفعال واسعة النطاق في الشرق الأوسط، خاصة أن الرئيس الأمريكي ترامب فوض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الشأن السوري على نحو خاطئ مكّن أردوغان من استثمار الموقف لصالحه من دون أي اعتبارات أخرى، فلم نعد نعرف إن كان الأتراك سوف يرثون كل المواقع والقواعد الأمريكية في سوريا، وهل هم المخوّلون بملء الفراغ الذي سوف يتركه الأمريكيون؟!
وهل يستجيب الرئيس التركي أردوغان لتحذيرات مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، الذي حذر أردوغان من اتخاذ أي خطوة في سوريا من دون إذن الولايات المتحدة؟! أم أن أردوغان سوف يضرب بتحذيرات بولتون عرض الحائط، ويُنفذ تهديداته حيال قوات سوريا الديمقراطية المشكّلة أساساً من الأكراد السوريين؟ خاصة أن أردوغان يعلن إنهاء استعداداته لشن عملية عسكرية تستهدف جميع الإرهابيين، لا فارق بين داعش والقوات الكردية!
ثم ما هو تأثير هذه العمليات العسكرية، التي تخطط لها تركيا على مصير التسوية السياسية للأزمة السورية، وإذا كان قرار الانسحاب من سوريا يُثير جدلاً كبيراً داخل الولايات المتحدة، ويعتبره معظم الجمهوريين أنصار ترامب هدية مجانية لروسيا وإيران بعد المعارضة الواضحة لوزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، فهل يتلكأ الرئيس الأمريكي في تنفيذ الانسحاب، أم أن الهدف من هذه الإشارات المتضاربة التي تصدر عن واشنطن هو إرباك الخصوم خاصة أن الروس يعربون الآن عن شكوكهم بشأن خطط الانسحاب الأمريكي، غير أن الحقيقة المهمة التي تتوافق عليها معظم الآراء، أن الائتلاف ضد «داعش» حقق تقدماً كبيراً، وأن التحالف وشركاءه في سوريا والعراق قد استعادوا السيطرة على الغالبية العظمي من أراضي «داعش»، لكن أحداً ينبغي ألا يغفل عن التهديد الذي لا يزال يشكله «داعش».