مازال الحديث بصحبة مقدمة الفيلسوف الكيبر ابن خلدون، والنتيجة التى توصل إليها ابن خلدون فى الفصل الثانى من مقدمته عند بحثه للعمران البدوى وهي: (إن اختلاف الأجيال فى أحوالهم إنما هو باختلاف نحلهم من المعاش) قادته بالضرورة إلى دراسة عدة مقولات اقتصادية تعتبر حجر الزاوية فى علم الاقتصاد الحديث، مثل دراسة الأساليب الإنتاجية التى تعاقبت على المجتمعات البشرية، وانتقال هذه الأخيرة من البداوة إلى الحضارة، أى من الزراعة إلى الصناعة والتجارة: (وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهى وجوه طبيعية للمعاش. أما الفلاحة فهى متقدمة عليها كلها بالذات. وأما الصناعة فهى ثانيها ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار، ولهذا لا توجد غالبا إلا فى أهل الحضر الذى هو متأخر عن البدو وثان عنه).
يركز ابن خلدون على الصناعة جاعلاً منها السبب الأساسى فى الازدهار الحضاري: (إن الصنائع إنما تكتمل بكمال العمران الحضرى وكثرته. إن رسوخ الصنائع فى الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها). كما تناول مقولة تقسيم العمل بالتأكيد على أن (النوع الإنسانى لا يتم وجوده إلا بالتعاون)، لعجز الإنسان عن تلبية جميع حاجاته مهما كانت قدرته بمفرده، حيث إن (الصنائع فى النوع الإنسانى كثيرة بكثرة الأعمال المتداولة فى العمران. فهى بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد، مثل الفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة والتوليد والوراقة والطب. أما القيمة فهى فى نظره (قيمة الأعمال البشرية): فاعلم أن ما يفيد الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله. إذ ليس هناك إلا العمل، مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر، وإن كان من غير الصنائع فلا بد فى قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذى حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قيمتها. فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها إنما هى قيم الأعمال الإنسانية.
ولم يغفل أيضاً عن مقولة (القيمة الزائدة) وإن لم يعالجها بشكل معمق عند تعرضه لصاحب الجاه: (وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيه الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه، فهو بين قيم للأعمال يكتسبها، وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها، فتتوفر عليها، والأعمال لصاحب الجاه كبيرة، فتفيد الغنى لأقرب وقت، ويزداد مع مرور الأيام يسارا وثروة). من كل ما تقدم نستطيع المجازفة والقول إن أعمال ابن خلدون وبالذات.
ويرفض ابن خلدون تدخل الدولة المباشر فى الإنتاج والتجارة لما يترتب عليه من أضرار اقتصادية. فهو يرى أن حاجة الدولة لتغطية نفقاتها المتزايدة تدفعها نحو هذا التدخل ولكن النتيجة حينئذ تكون بعكس القصد.
يكتب ابن خلدون «اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد المال والجباية، فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا وتارة بالزيادة فى ألقاب (معدلات؛ أسعار) المكوس إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك (امتصاص) عظامهم، لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان (المحاسبون)، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية (باسم الجباية)، لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال. فيأخذون فى اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله فى شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد. غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة».
مما تقدم يبين لنا أن مقدمة ابن خلدون تعتبر أول موسوعة فى العلوم الإنسانية، بل هى باكورة العمل الموسوعى العام قبل ظهور عصر الموسوعات بحوالى خمسة قرون.
رئيس حزب الوفد