الحديث مستمر بصحبة الفيلسوف ابن خلدون الذى يعتبر مؤسس علم الاجتماع أو علم العمران البشري. وقد ذكر فى كتاب مقدمة ابن خلدون: «وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا»، وهو علم مستقل بنفسه موضوعه العمران البشرى والاجتماع، ويهدف إلى «بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أم عقلياً وأعلم أن الكلام فى هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص. وكأنه علم مستبط النشأة، ولعمرى لم أقف على الكلام فى منحاه لأحد من الخليقة.
لقد قاد المنهج التاريخى العلمى الذى اتبعه ابن خلدون للتوصل إلى علم الاجتماع، وهذا المنهج يرتكز على أن كل الظواهر الاجتماعية ترتبط ببعضها البعض، فكل ظاهرة لها سبب وهى فى ذات الوقت سبب للظاهرة التى تليها، لذلك كان مفهوم العمران البشرى عنده يشمل كل الظواهر سواء كانت سكانية أو ديمغرافية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية أو ثقافية. فهو يقول فى ذلك: «فهو خبر عن الاجتماع الإنسانى الذى هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن الكسب والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث فى ذلك العمران بطبيعته من الأحوال». ثم يأخذ فى تفصيل كل تلك الظواهر مبيناً أسبابها ونتائجها، مبتدئاً بإيضاح أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه حيث: «إن الاجتماع الإنسانى ضرورى فالإنسان مدنى بالطبع أى لابد له من الاجتماع الذى هو المدنية، وهو معنى العمران.
يناقش ابن خلدون العمران البشرى بشكل عام مبيناً أثر البيئة فى البشر وهو مايدخل حالياً فى علم الإثنولوجيا وعلم الإنسان، ويتطرق لأنواع العمران البشرى تبعاً لنمط حياة البشر وأساليبهم الإنتاجية قائلاً: «إن اختلاف الأجيال فى أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم فى المعاش. مبتدئاً بالعمران البدوى باعتباره أسلوب الإنتاج الأولى الذى لا يرمى إلى الكثير من تحقيق ما هو ضرورى للحياة: «إن أهل البدو المنتحلين للمعاش الطبيعي. وإنهم مقتصرون على الضرورى من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد».
ثم يخصص الفصل الثالث من المقدمة للدول والملك والخلافة ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها، مؤكداً أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن فى العصبية، والعصبية عنده أصبحت مقولة اجتماعية احتلت مكانة بارزة فى مقدمته حتى اعتبرها العديد من المؤرخين مقولة خلدونية بحتة، وهم محقون فى ذلك لأن ابن خلدون اهتم بها اهتماماً بالغاً إلى درجة أنه ربط كل الأحداث الهامة والتغييرات الجذرية التى تطرأ على العمران البدوى أو العمران الحضرى بوجود أو فقدان العصبية. كما أنها فى رأيه المحور الأساسى فى حياة الدول والممالك. ويطنب ابن خلدون فى شرح مقولته تلك، مبيناً أن العصبية نزعة طبيعية فى البشر مذ كانوا، ذلك أنها تتولد من النسب والقرابة وتتوقف درجة قوتها أو ضعفها على درجة قرب النسب أو بعده. ثم يتجاوز نطاق القرابة الضيقة المتمثلة فى العائلة ويبين أن درجة النسب قد تكون فى الولاء للقبيلة وهى العصبية القبلية.
ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نصرة كل أحد من أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التى تلحق النفس فى اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء. أما إذا أصبح النسب مجهولاً غامضاً ولم يعد واضحاً فى أذهان الناس، فإن العصبية تضيع وتختفى هى أيضا.. بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح انتفت النعرة التى تحمل هذه العصبية، فلا منفعة فيه حينئذ. هذا ولا يمكن للنسب أن يختفى ويختلط فى العمران البدوي، وذلك أن قساوة الحياة فى البادية تجعل القبيلة تعيش حياة عزلة وتوحش، بحيث لا تطمح الأمم فى الاختلاط بها ومشاركتها فى طريقة عيشها النكداء، وبذلك يحافظ البدو على نقاوة أنسابهم، ومن ثم على عصبيتهم.
الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين فى القفر. وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء الموطن، حملتهم عليها الضرورة التى عينت لهم تلك القسمة، فصار لهم ألفاً وعادة، وربيت فيهم أجيالهم.
فلا ينزع إليهم أحداً من الأمم أن يسهم فى حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال. فيؤمن عليهم لأجل ذلك منعت اختلاط أنسابهم وفسادها. أما إذا تطورت حياتهم وأصبحوا فى رغد العيش بانضمامهم إلى الأرياف والمدن، فإن نسبهم يضيع حتماً بسبب كثرة الاختلاط ويفقدون بذلك عصبيتهم.. ثم يقع الاختلاط فى الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الانساب بالجملة ثمرتها من العصبية فأطرحت ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية مدثورها وبقى ذلك فى البدو كما كان. وهكذا نخلص للقول فى هذا الصدد بأن العصبية تكون فى العمران البدوى وتفقد فى العمران الحضري.
.. وللحديث بقية
رئيس حزب الوفد