المشهد نفسه يتكرر: خمسة أو ستة من جنود الاحتلال ينهالون بالضرب على فلسطيني. جنود آخرون يعتقلون طفلاً في الطريق من مدرسته إلى بيته، بعد أن فتشوا في حقيبته عن سلاح من شاكلة مقص أظافر أو دفتر كتب على إحدى صفحاته عابرون في كلام عابر أو سجل أنا عربي.
مجموعة أخرى تشد غطاء رأس أم ذاهبة إلى الأقصى لتصلي، بعد أن تطرحها أرضاً. وتطلق النار على صبية رفضت الانصياع لأوامر الجنود والتوقف للتفتيش فتسقط شهيدة.
الوجه الآخر للمشهد الذي يرفض أن يتغير: شاب كان طفلاً في الانتفاضة الأولى وصبياً في الانتفاضة الثانية يقف في مواجهة دورية إسرائيلية يصد اللكمات عنه بلكمات أقوى حتى يتكالب عليه كلاب الاحتلال فيرمونه أرضاً ويعتقلوه لينضم إلى عشرات آلاف الأسرى.
شاب آخر يتصل به جندي إسرائيلي يطلب منه أن يأتي إلى كراجه ليفتحه لهم ليفتشوه وإلا يكسروه. يراوغ الشاب الجندي في حوار لا يخلو من السخرية منه ومن دولته: وهل توقظني بعد منتصف الليل لتقول لي تعال افتح الباب، أنا نائم الآن؟ ينفعل الجندي ويصرخ: قلت لك تعال وإلا كسرنا الباب. يجيب الشاب: ليس لديّ سيارة. يزداد الجندي عصبية: خللي أخوك يجيبك. يرد: أخي ليس في البيت. تعال أنت خذني!
وبغض النظر عن قلة ممن أعماهم المال عن واقع الحال فأغلبية الشعب الفلسطيني متمسك بأرضه.
عبد الرؤوف المحتسب من أهل مدينة الخليل القديمة ساومه يهود أمريكيون على بيته وحوشه وعرضوا بداية ثلاثين مليون دولار رفعوها إلى أربعين ثم ستين ثم مئة مليون دولار، ومع انه يعتاش من دكانه البسيط لكنه رفض قائلاً: سأحافظ على هذا الكنز من تراب الخليل وأرض فلسطين، لن أبيع بيتي ولو بأموال الدنيا. آكل خبز وبندورة وأعيش بكرامة وسط أهلي مرفوع الرأس.
في هذه المشاهد وغيرها يكمن السر. سر الشعب الذي يرفض الاحتلال والجيش الذي تعب من أن يكون محتلاً إلى الأبد. ولا حل في الأفق. إسرائيل تزداد قوة والفلسطينيون يزدادون صموداً.
البروفيسور بني موريس من المؤرخين الجدد في إسرائيل وهو أول من كشف عن مذابح غير مؤرخة ارتكبتها عصابات الهاغاناة وشتيرن ضد الفلسطينيين في العام 1948 مثل مذبحة الطنطورة، يقول في مقابلة بملحق هآرتس ، 9/1 إنه لا يوجد احتمال للتوصل إلى اتفاق سياسي مع الفلسطينيين لأن هدفهم هو القضاء على الصهيونية ومحو دولة إسرائيل، ولعدم وجود احتمال لاتفاق مع الفلسطينيين فإن دولة إسرائيل ستنهار، واليهود سيتحولون إلى أقلية مضطهدة. والطريق الوحيدة لهم للهرب من الذبح سيكون الهرب إلى أمريكا أو أوروبا. حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها: إذا توصلت إسرائيل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، فهي ستمحى لأن هذا ما يتطلع الفلسطينيون إليه.
وإذا لم تصنع اتفاقاً، أيضاً ستمحى. يرد عليه ميرون ربابورت في هآرتس نفسها بعد أسبوع قائلاً: إن الكثير من اليهود في إسرائيل يعتقدون أنه لا يمكن التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، وفي كل الأحوال، الوضع الراهن مفضل من ناحيتهم على التسوية، ومن جهة أخرى هم يخشون من أن الوضع الراهن سيقود إسرائيل إلى كارثة. الكثير منهم يكونون في يوم مع نتنياهو وفي يوم آخر مع موريس. في يوم يؤمنون بخلود الوضع الراهن، وفي الغد يقتنعون بأن هذا الوضع سيسقط على رؤوسهم.
هذا البنادول العاطفي، هكذا يبدو، ينعكس أيضاً على الانتخابات. منذ فترة طويلة لم تكن هناك حملة انتخابات مشوشة بهذا القدر، عديمة المحور الرئيس، مشيراً إلى الانتخابات المبكرة التي دعا إليها نتنياهو والمقررة أبريل المقبل.
وقد جاء قرار إجراء الانتخابات المبكرة، بعد انهيار محادثات بين نتنياهو ووزير التعليم اليميني نفتالي بينيت. وكان بينيت قد هدد بالانسحاب من الحكومة إذا لم يُمنح حقيبة الدفاع بعد استقالة وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، لكن نتنياهو رفض مطالب بينيت.
تلك هي الصورة الحقيقية للقصة بعيداً عن الصور التي يظهر بها نتنياهو متحدثاً عن انتصاراته على الأعداء العرب، هناك انشقاقات بين الإسرائيليين أخطر مما تبدو للبعض خاصة أنها غير مسبوقة في صفوف اليمين الإسرائيلي.
القصة باختصار أن ثمة شعبًا يصر على أرضه ووجوده و شعبًا غير واثق من استمرار وجوده على الأرض نفسها.