بعد هدوء على الجبهة السورية استمر بعض الوقت عادت الغارات والصواريخ الإسرائيلية لتخترق جدار «الخط الأحمر» الذي رسمه لها النظام السوري وايران. وكان دفعها الى مزيد من الحذر سقوط طائرة روسية أثناء إحدى غاراتها قبل أشهر. الأمر الذي أغاظ موسكو ودفعها الى مدّ دمشق بصواريخ «إس 300». لكن تل ابيب عادت وكثفت ضرب المواقع الايرانية في سورية بعد قرار الرئيس دونالد ترامب سحب قواته من شرق الفرات.
وسبق لموسكو أن أعطت اسرائيل الضوء الأخضر لقصف كل شحنات الأسلحة المرسلة من طهران. ولكن هذا الاتفاق الشفهي بين الدولتين سقط مع سقوط أول طائرة روسية. وتجدد بعد اتصالات بين موسكو وتل ابيب التي التزمت إبلاغ الروس مسبقاً بعملياتها.
وتحاشياً لتكرار تلك السابقة، وجّه الطيران الاسرائيلي صواريخه من الأجواء اللبنانية بهدف تدمير شحنة الصواريخ المنقولة من ايران. والملفت في الأمر أن قيادة «الحرس الثوري الإيراني» كانت دائماً تحرص على إرسال هذه الشحنات خلال الليل تفادياً لاكتشافها. وبالرغم من أخذ الحيطة والحذر، فإن جواسيس اسرائيل داخل ايران كثيراً ما يرصدون هذه العلميات المريبة ويبلغون عنها.
أحزاب المعارضة الإسرائيلية اتهمت رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بتلفيق حكاية الأسلحة الإيرانية مطلع هذا الأسبوع بهدف تضليل الرأي العام وتحويل الأنظار عن الأزمة السياسية التي تخيفه. وهي أزمة داخلية لوّح المدعي العام أفيشاي ماندلبلت بتفجيرها في وجه رئيس الوزراء قبل الانتخابات العامة المقررة في التاسع من نيسان (ابريل) المقبل.
ويرى المراقبون أن وظيفة المدعي العام تكمن في قدرته القانونية على منع نتانياهو من الفوز بدورة خامسة. وهو أمر بالغ الأهمية، كونه يميز رئيس الوزراء عن أسلافه، ويسجل إسمه كصاحب أطول مدة خدم فيها دولة اليهود. لكن تحقيق هذه الأمنية متوقف أولاً وأخيراً على قرار المدعي العام، خصوصاً بعدما تسلم من الشرطة الملف الكامل للاتهامات الموجهة الى نتانياهو وزوجته.
أنصار نتانياهو يسخرون من الاتهامات الموجهة اليه، باعتباره قبِل رشوة لا تزيد قيمتها عن علبة سيجار كوبي أو صندوق شمبانيا. وهم يرفضون أن يكون زعيمهم ضحية الوشايات، مثلما حدث لسلفه إيهود أولمرت الذي واجه التحقيق الأولي سنة 2008، قبل أن يدخل السجن لمدة سنة ونصف سنة. كل هذا بسبب اعترافاته بأنه قبِل رشوة من أحد أصدقائه الأثرياء في مقابل خدمة قدمها له.
الأسبوع الماضي، نقل رئيس الوزراء معركته مع المدعي العام الى مستوى التشكيك في صلاحيته الدستورية. وقد اتهمه بأنه نقل القضية من العدالة الى السياسة. وحذره من عواقب عمله لأنه يملك في الكنيست كتلة حزبية مؤلفة من ثلاثين نائباً، كما يحظى بتأييد سبعين في المئة من نواب الكتل الأخرى. وكان نتانياهو بهذا التهويل يلوح للمدعي العام باحتمال إقالته من منصبه.
ولما بلغ الخصام هذا المستوى من التحدي، ظهرت بين الحياديين كتلة معارضة لنهج رئيس الوزراء، وهدد أعضاؤها بالإنسحاب من عملية التأييد في حال ثبتت تهمة الرشوة والمخالفات الأخرى.
تقول الصحف الأسرائيلية إن ماندلبلت حظي بنفوذ استثنائي أهله لتطوير منصبه خلال السنة الماضية. ولقد أعانه على تحقيق هذا الهدف نشاط الشرطة التي أمنت له أربعة ملفات ضخمة عن مخالفات نتانياهو وزوجته سارة. وهي مخالفات واسعة دافع عنها رئيس الوزراء بالإدعاء أنها صادرة عن شخصية يسارية الميول ضد مسؤول سياسي يرأس حزب اليمين. لذلك نشرت أخبار في الصحف تقول إن نتانياهو يميل الى استبداله بمدعي عام يميني تنسجم أفكاره مع نهج ليكود. من هنا ترى صحيفة «معاريف» أن قصف الطائرة المحملة بالصواريخ للجيش السوري و«حزب الله»… ليس أكثر من مسرحية مفتعلة لتحويل الانتباه عن المعركة الطاحنة التي يخوضها في الداخل. أما الصحف العبرية الأخرى فقد توصلت الى الاستنتاج ذاته، مع حرص نتانياهو على ربح الفترة الزمنية التي تفصله عن التاسع من شهر نيسان المقبل.
الأحزاب المعارضة في اسرائيل لا تنكر أن ايران تزود سورية و«حزب الله» بمختلف أنواع الأسلحة، بما فيها الصواريخ. لكنها خلال المعركة الجوية التي حدثت مطلع هذا الأسبوع، كانت الأهداف مموهة ومضللة. بل كانت مجرد تغطية حربية لحرب قائمة بين رئيس وزراء اسرائيل والمدعي العام. ويرى مراقبون أن خطورة ممارسة هذه اللعبة المميتة تكمن في خطر إنقلاب اللعب الى حرب جدية لا يريدها مفتعلها!
ومن خلال هذه الحادثة، أطلت عشرات التحاليل في الصحف وشبكات التلفزيون لتراجع سيرة نتانياهو، وتصفه بالغراب الذي ينعق خارج سربه. والسبب أنه أراد تسجيل إسمه على قائمة الشرف التي احتكرها العسكريون. أي القائمة الطويلة التي تضم زعماء العصابات الإرهابية، ممن تحولوا بعد سنة 1948 الى نماذج وقدوة للجيل الجديد في اسرائيل. وقد برزت أسماء عدة جنرالات خلال ستة حروب، بدءاً من حرب السويس والاعتداء الثلاثي حتى حرب 1967 والحروب التي تلتها على لبنان وغزة… لذلك وصف الكاتب المصري المعروف زهير كامل اسرائيل بأنها «جيش له دولة… وليست دولة لها جيش»! وبما أن بنيامين نتانياهو لم تؤهله الظروف لأن يكون بين العسكريين من أمثال موشيه دايان وارييل شارون واسحق رابين وايهود باراك، ولا بين المدنيين الذين خدموا بلادهم من أمثال أبا إيبان وشيمون بيريز، لذلك إنضم الى «الموساد» على أمل القيام بمهمة تسجل إسمه في إحدى القائمتين. واختار من هذه المنظمة كتيبة «الفرقة الخاصة» المدربة على محاربة التنظيمات الفلسطينية المسلحة. وكانت تحمل إسم الكومندوز «سايرت متكال»، أي «وحدة النخبة» التي اختار جيش الدفاع الاسرائيلي لقيادتها رفائيل إيتان.
يوم السبت الموافق 28 من شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1968، شنت «الفرقة الخاصة» الاسرائيلية غارة واسعة على مطار بيروت الدولي استمرت 35 دقيقة، دمرت خلالها 13 طائرة ركاب. وكانت ثمانية منها تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط MEA، زائد طائرة شحن، وطائرتين تابعتين لشركة الخطوط الجوية عبر المتوسط.
وإدعت اسرائيل في نشرتها الإخبارية أن الغارة على مطار بيروت كانت رداً على هجوم نفذته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» على طائرة «العال» الاسرائيلية في مطار أثينا قبل أربعة أيام.
ومنذ تنفيذ تلك العملية الانتقامية برز إسم نتانياهو كبطل قومي كونه تجرأ على قيادة العملية بنفسه. وشوهد وهو يقفز من المروحية ليلصق القنابل الموقوتة على أجنحة الطائرات اللبنانية الرابطة في المطار. وكان من الطبيعي أن يثير السياسيون اللبنانيون ضجة كبرى ضد الرئيس شارل حلو الذي اتهمه العميد ريمون إده بالتخاذل والجبن. ودافع الرئيس حلو عن نفسه ضد تلك الاتهامات، مؤكداً أنه اتصل بالسفير الاميركي ليبلغه استعداد الجيش اللبناني للرد على الغارة الاسرائيلية التي انتقمت من الفلسطينيين بضرب شركات لبنانية. ونصحه السفير بالتريث لأن هناك بارجة حربية اسرائيلية مصوبة مدافعها نحو المباني الحكومية في بيروت. ولما نقل شارل حلو هذا العذر الى ريمون إده، أجابه بأن تخاذلك سيجيّر البلد للمنظمات الفلسطينية. وهذا ما حدث. الحادث الثاني الذي أثّر على مجرى حياة نتانياهو، بدأ فور مقتل شقيقه جونثان الذي قاد فرقة تحرير رهائن اسرائيليين احتجزهم فدائيون فلسطينيون في مطار عنتيبي.
وفي معرض تخليد ذكرى شقيقه، أسس نتانياهو معهداً في الولايات المتحدة، خصصه لمقاومة الإرهاب من طريق المحاضرات وإصدار نشرات دورية. وقد ساهم هو بنشر كتابين عبّر من خلالهما عن أساليب مقاومة هذه الآفة العابرة للحدود.
بقي أن نذكر أن طموح نتانياهو الجامح قد يحمل الفجيعة للدولة التي سلمته قيادتها، خصوصاً إذا توهم أن الحروب الستة الماضية قد أقنعت العرب، وغير العرب، أن الصواريخ الموجهة نحو المدن الاسرائيلية لن تخرج من ترساناتها!
كاتب وصحافي لبناني