تستحوذ الصين على مساحة اهتمام كبيرة من الرأي العام العالمي، وكثيرا ما تجذب سياساتها المحلية والخارجية الإعلام الدولي، ولما لا فهى تحتل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر قوة تجارية، وأحد الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
والصين لها مقومات استراتيجية تجعلها قوة عظمى محتملة، فهي تمتد على مساحة 9.6 مليون كيلومتر مربع من الجزء الشرقي لقارة آسيا على الساحل الغربي للمحيط الهادي، وتحت سيادتها أكثر من 7600 جزيرة في منطقة البحر، وتشارك في حدودها 14 دولة: فيتنام ولاوس وبورما والهند وبوتان والنيبال وباكستان وأفغانستان وطاجيكستان وقيرجيزستان وكازاخستان وروسيا ومنجوليا وكوريا الشمالية، وهي الأكبر من حيث عدد السكان الذي يتعدى المليار وثلاثمائة مليون نسمة، كما أنها أذهلت العالم بالنمو الاقتصادي الكبير الذي حققته في خلال عقد من الزمان.
ولا يرى المواطن الصيني بلده تماما كما يراها العالم، فهي في نظره لها بعد أعمق من كونها العملاق الاقتصادي أو التجاري أو العسكري، فالصين في عين المواطن الصيني هي واحدة من الأربع حضارات القديمة، يفتخر بعمق ثقافتها وتاريخها الطويل. والحقيقة أنك عندما تذهب إلى الصين تستطيع أن تلمس عبق هذه الحضارة في مناطق عديدة مختلفة، إلا أن اتساع الأرض وموقع الصين الجغرافي مع لغة الصين الفريدة الصعبة، صنع نوع من العزلة للصين عن العالم الخارجي لحقب زمنية عديدة، وإن كانت سياسة الصين الخارجية مؤخرا تتسم بالانفتاح على العالم والاستثمار في المقبلين على دراسة اللغة الصينية من الطلاب الأجانب داخل وخارج الصين لنشر اللغة وتوسيع قنوات التواصل.
كان مهد الحضارة الصينية في سهل شمال الصين حول النهر الأصفر وروافده، حيث كانت حضارة فائقة التفرد عن الشعوب المحيطة وقتها. عزلة الصين عندئذ وشعورها بالتفوق منذ بداية سلالة شانج (من القرن السادس عشر إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد)_ كما وصفه مارتن ستيوارت فوكس في كتابه (A Short History of China and Southeast Asia)_لم يشكلا فقط مواقف الصين تجاه الشعوب الأخرى، ولكن أيضا مفهومهم عن أنفسهم، والتي بها خصائص يرى الصينيون بها العالم، والتي في اعتقادي فيها شيء من التأثير حتى يومنا هذا. فالصينيون القدماء يسود بينهم الاعتقاد بأنهم يقفون في قلب الكون، وأنهم يشكلون «المملكة الوسطى»، محاطين في جميع الاتجاهات الأربعة من قبل شعوب «بربرية» أقل تقدما ثقافيا.
هذا الاعتقاد هو أيضا إحدى التفسيرات الشائعة وراء تسمية الصينيين لبلدهم بـ «جونج جوا – Zhongguo» وتعني باللغة الصينية المملكة الوسطى أو المركزية.
ويذكر أن هذه التسمية ظهرت لأول مرة في أوائل عصر أسرة تشو الغربية قبل حوالي 3000 سنة، كما أنها ظهرت في وقت مبكر جدا في الأدب الصيني الكلاسيكي، وكانت تستخدم على نطاق واسع. يذكر أن هذه التسمية في أوائل ظهورها لم تستخدم كاسم للبلاد بل كصفة، فالصين كانت تأخذ في كل عصر اسم الأسرة الحاكمة. على سبيل المثال ، كان الاسم الرسمي للبلاد وقت حكم أسرة هان هو هان ، والاسم الرسمي وقت حكم أسرة تانج هو تانج، وهكذا.
وترجح عدد من المصادر أن كلمة «China» أو «الصين» أو أي من مشتقاتهما أو أي اختصارات تشير للصين مثل «سين» أو «سينو» في أي لغة من اللغات إنما هي مستمدة في الأساس من اسم أسرة «تشين – Qin 221 – 206 قبل الميلاد» الحاكمة وقتها. ثم ظهر في الفترة ما بين 1912 و1949 الاسم الرسمي للصين، وهو «جونج خوا مين جوا – Zhong Hua Min Guo»، أي «جمهورية الصين»، و«خوا» هنا تعني الصين، وتستخدم كثيرا في المؤسسات الرسمية مثل الوكالة الإخبارية «شينخوا»، ثم منذ 1949 وحتى يومنا هذا، أصبح اسم الصين الرسمي هو «جمهورية الصين الشعبية».
والحقيقة أنك تستطيع أن تستشعر كيف يرى الصينيون أنفسهم وكيف يرون العالم عندما تمكث في الصين لفترة من الزمن. أتذكر أنه عند بدء دراستي بالصين، كانت هناك خريطة للعالم معلقة على أحد جدران الفصل الذي ندرس فيه، ولوهلة أحسست أن بها شيئا غريبا، ثم اكتشفت أن وضع العالم بالخريطة عكس المعتاد الذي نراه، فقارتي أمريكا الشمالية والجنوبية تقعان على يمين الخريطة، وبالتالي تبدو الصين بشكل ما أقرب لمركز العالم.
والصين كبيرة جدا من حيث المساحة وعدد السكان، ذات طبيعة متنوعة من جبال وسهول لأودية وبرك وأنهار، وتتميز بـ 56 قومية لهم سماتهم الخاصة من حيث اللهجات والعادات والثقافات، كل ذلك أضاف للصين تنوعا مثيرا، وأحيانا مفارقات مختلفة، تجعل من تجربة كل زائر للصين ثرية بشكل ما.
ويفتخر المواطن الصيني بلغته، ويراها فريدة، ويظهر اعجابه الشديد بمتحدثي اللغة الصينية من دون الصينيين مهما كان مستواهم اللغوي، لإدراكه التام بصعوبتها. وكثيرا ما يعرب الصينيون لي عن فرادة اللغة الصينية وكيف أنها لازالت تستخدم منذ مهد حضارتهم حتى الآن، وأنها ليست كاللغة الهيروغليفية التي لا يتحدث بها المصريون اليوم.
والحقيقة أن اللغة الصينية هي البوابة الحقيقية للتعرف عن قرب على الثقافة وطبيعة الشخصية الصينية، فالقدر الذي تعلمته عن الصين وعن شعبها يفوق بمراحل ما كنت أعرفه قبل دراستي للغة الصينية، والتي تعتبر بالنسبة لي كالبحر الواسع العميق الممتد في أفق بلا نهاية، مهما اغترفت منه من معرفة يعد القليل القليل.
ويطلق الصينيون على اللغة الصينية بـ «هانيو- Hanyu»، في إشارة إلى لغة قومية الهان (تشكل ما يقرب من 91.51 ٪ من مجموع السكان)- اللغة الصينية الرسمية والتي تعرف بالماندرين Mandrin، التي هي أيضا أحد اللغات الرسمية المستخدمة في الأمم المتحدة، ومن أقدم اللغات، والتي يرجع تاريخ تطورها كما يراه بعض المتخصصين إلى أكثر من 6000 عام، تركت خلاله كل حقبة زمنية بصمتها عليها وأثرت فيها بشكل ما. فمن مرحلة «جيا جو ون – Jiaguwen» تلك النقوش والكتابات التي سجلت على ظهر قواقع السلاحف وعلى عظام الحيوانات، والذي كان فيه تسجيل لحقبة سلالة شانج، إلى مرحلة «جين ون – Jinwen» أي الكتابة الذهبية في إشارة للرموز التي نقشت على الأواني النحاسية والمعادن البرونزية في فترة حكم سلالة جو الغربية، ومرورا بمرحلة «جوان شو – Zhuanshu» فترة حكم جو الغربية وأسرة تشن، إلى مرحلة «تساو شو – Caoshu» فترة حكم أسرة هان، وصولا لمرحلة «هانج شو – Hangshu» في نهاية حكم سلالة هان الشرقية التي هي تطور للرموز الصينية التي تستخدم حتى يومنا هذا.
واللغة الصينية تقوم على عدد من الرموز، وتتشكل الكلمة من رمز أو رمزين أو ثلاثة، وأرى في كل رمز صيني قطعة فنية يمكن أن تتزين بها الجدران، كما أن كثير من الرموز الصينية يمكن استنتاج معناها، فهي في الأساس مستنبطة من الطبيعة، مثل الرموز التي تعني شمس وبيت وشخص وجبل إلخ، كما أن هناك وراء بعض الرموز الكثير من الحكايات والأساطير الشعبية.
ولن تجد مواطن صيني يستطيع أن يعطي لك إجابة دقيقة حول عدد الرموز الصينية في مجملها، حتى أن القواميس الصينية تختلف في عدد الرموز التي تحتويها، ولكن يمكن أن نكون فكرة تقريبية عن عدد الرموز الصينية المحتملة إذا تصفحنا مثلا قاموس مثل قاموس «جونج خوا تسي هاي – Zhonghua ZiHai» طبعة 1994 الذي يحتوي على أكثرمن 85 ألف رمز. إلا أن بعض متخصصي اللغة يرون بأن الصينيين لا يستخدمون في حياتهم اليومية إلا بضعة الآف من الرموز، وأن الشخص يحتاج ما بين 2000 و 3000 رمز ليستطيع قراءة الصحف الصينية على سبيل المثال.
ولا يكتمل الحديث عن اللغة الصينية إلا بذكر فضل العالم اللغوي «جو يوجوانج – Zhou Youguang»، الذي رحل عن عالمنا في 2017 عن عمر يناهز 111 عاما، والملقب في الميديا الصينية بأبو الكتابة الصينية «البينين –Pinyin»، وهو نظام كتابي ابتكره عام 1958 جعل للرموز الصينية ما يقابلها من حروف لاتينية، مما شكل طفرة في تعلم اللغة الصينية وسهولة تداولها، والذي ساهم بشكل كبير في خفض معدل الأمية وساعد على رفع معدلات القراءة والكتابة بين جموع الشعب الصيني، كما أن هذا النظام الكتابي حقق طفرة للصين في عالم الإنترنت، وأصبح من السهل التواصل باللغة الصينية من خلال الكمبيوتر والهواتف الذكية.
وبدأ العالم الخارجي يتبنى تدريجيا النظام الصيني في كتابة الأسماء الصينية، واعتمد بعض الناشرين في الخارج على هذا النظام في نشر القواميس والخرائط، وقد اعتمد أطلس العالم باللغة الإنجليزية المنشور في موسكو عام 1979 نظام البينيين في الخرائط الخاصة بالصين. وأعلنت صحيفة النيويورك تايمز في فبراير 1979 عن أنها تستعد لتبني نظام البينيين الصيني لكتابة أسماء الأماكن والشخصيات الصينية، وقد كانت الصحيفة كما في قطاعات عديدة في العالم تتبع نظام (Wade – Giles) الإنجليزي في كتابة الأسماء الصينية، الذي تم تصميمه عام 1860 تقريبا على يد الدبلوماسي البريطاني وأستاذ اللغة الصينية بجامعة كامبردج السير توماس ويد، ثم تم تنقيحة وتطبيقة من قبل العالم بنفس الجامعة هربرت ألن جايلز، وقد تم تطبيق النظام على نطاق واسع في المراجع الإنجليزية والخرائط. وفي مقال لنفس الصحيفة بتاريخ 1984 لكاتبه مارجوري هانتر إشارة إلى أن مجلس الولايات المتحدة المعني بالأسماء الجغرافية كان يجد صعوبة كبيرة في توحيد الأسماء الأجنبية التي تعتبر دائما مشكلة صعبة، لا سيما الأسماء في البلدان التي تستخدم أبجدية غير رومانية مثل الصين، ففي السابق لم يكن هناك نظام موحد، فكل دولة تستخدم تهجئاتها الخاصة للأسماء الصينية، حتى أوجدت الصين نظام البينيين، الذي شكل طفرة في توحيد كتابة الأسماء الصينية.
والحقيقة أنه مهما كانت قناعتك بمدى إجادتك للغة الصينية فلابد وأن الواقع داخل الشارع الصيني سيضعك في اختبار حقيقي لدرجة إجادتك للغة لمدى التنوع في اللهجات المحلية التي تختلف من مقاطعة لأخرى، وأحيانا تسمع لهجات مختلفة داخل المقاطعة الواحدة. فهناك بالإضافة إلى لهجة قومية الهان، يوجد لهجة وو، وهونان، وكه جيا، وجوانجدونج، ولهجة فوجيان. مامدى تباين هذه اللهجات عن بعضها البعض؟ ولأي مدى يمكن لدارسي اللغة الصينية فهمها؟ للإجابة على هذه الأسئلة سأحكي تجربتين لي مع اللكنات واللهجات المختلفة داخل الصين.
أذكر مرة كنت في صحبة صديقة صينية في مقاطعة «سيتشوان» بجنوب غرب الصين، وكنا في حاجة للسؤال عن عنوان مكان نقصده، وبالفعل استوقفت صديقتي أحد مواطني البلدة تسأله على العنوان، رد الشخص بلغة هي تبدو على مسامعي لغة صينية لكن لم أفهم منها حرفا واحدا، وقبل أن أقلق على مدى معرفتي الحقيقية باللغة الصينية، فاجأتني صديقتي وهي ترد على الشخص بعصبية قائلة: «من فضلك اتكلم «ماندرين»، مش فاهمه حاجة من اللي انت قلتها!!» وبالفعل أعاد الشخص ما قاله بلكنة مفهومة لي جدا ثم أضاف بعصبية قائلا: «المفترض أنا باتكلم صيني برده!!»
وفي إحدى المؤتمرات الأكاديمية العالية الشهرة التي شاركت بها في الصين، حيث كان هناك حضور من متخصصين وباحثين صينيين قادمين من مختلف أنحاء الصين لإلقاء أبحاثهم. في ذلك الوقت لم يكن هناك أي مشكلة في التواصل ومناقشة بعض القضايا مع بعضهم في أوقات الاستراحة والغذاء. لكن كانت المشكلة دائما تكمن عند إلقاء أحد الباحثين لورقة البحث الخاصة به.
فأذكر في مرة كان هناك أستاذ جامعي متخصص في الشأن الأفغاني، لم يكن فقط يتكلم بسرعة عند إلقاء بحثه بل أيضا من الواضح أن في كلامه لكنة ما زادت من صعوبة فهمه. في هذه الأثناء شعرت بالإحباط الشديد، فالتفت إلى مشرفي على رسالة الدكتوراة الذي كان حاضرا أيضا المؤتمر أحدثه قائلة: «أنا محبطة جدا يا دكتور .. لم أفهم 80% مما قاله الأستاذ!!» فرد عليا المشرف مندهشا قائلا: «إيييييه!!! دا انتي ممتازة!!! أنا لم أفهم 60% مما قاله!!!»
هذان الموقفان تكررا مرارا خلال سفري أو مشاركتي لأنشطة أو مؤتمرات محلية أو دولية داخل الصين. ولعل هذا أحد الأسباب التي جعلتني أقتنع وبشدة بخطة الحكومة الصينية بتعميم دراسة اللغة الرسمية لغة الماندرين بالمدارس في كل أنحاء الصين، وفرضها حتى بين أبناء القومية الواحدة التي لا تزال تتحدث بلغتها، وجعلها لغة التدريس الرسمية داخل الجامعات، فإذا لم يحدث ذلك، لن يفهم الصينيون بعضهم البعض.
نقلا عن صحيفة القاهرة