مازلنا بصحبة الفيلسوف ابن رشد، وتأثيره فى الفلاسفة الذين جاءوا من بعده، فقد أثنى بعض العلماء عليه كما جاء عند الذهبى عن ابن أبى أصبيعة من قوله: كان أوحد فى الفقه والخلاف، وبرع فى الطب، وقول الذهبى نفسه: «وكان يُفزع الى فتياه فى الطب، كما يُفزع الى فتياه فى الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبى تمام والمتنبى.
عُرٍف ابن رشد في الغرب بتعليقاته وشروحه لفلسفة وكتابات أرسطو والتي لم تكن متاحة لأوروبا اللاتينية في العصور الوسطى المبكرة. وقبل عام 1100 م كان عدد قليل من كتب أرسطو عن المنطق هو الذي تمت ترجمته إلى اللغة اللاتينية على يد الفيلسوف المسيحي بوتيوس، على الرغم من أن أعمال أرسطو الكاملة كانت معروفة في بيزنطة. ثم بعد أن انتشرت الترجمات اللاتينية للأعمال الأخرى لأرسطو من اليونانية والعربية في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين أصبح أرسطو أكثر تأثيراً على الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى. وقد ساهمت شروح ابن رشد فى ازدياد تأثير أرسطو في الغرب في العصور الوسطى. وفي أوروبا العصور الوسطى أثرت مدرسة ابن رشد في الفلسفة، والمعروفة باسم الرشدية تأثيراً قوياً على الفلاسفة المسيحيين من أمثال توما الأكويني، والفلاسفة اليهود من أمثال موسى بن ميمون وجرسونيدوس. وعلى الرغم من ردود الفعل السلبية من رجال الدين اليهودي والمسيحي إلا أن كتابات ابن رشد كانت تدرس في جامعة باريس وجامعات العصور الوسطى الأخرى، وظلت المدرسة الرشدية الفكر المهيمن في أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي.وقد قدم كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال تبريراً للتحرر من العلم والفلسفة من اللاهوت الأشعري، وبالتالي اعتبرت الرشدية تمهيداً للعلمانية الحديثة.
وقد كتب جورج سارتون أبو تاريخ العلوم ما يلي:
««ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون. وقد يصل تاريخ الرشدية إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهي فترة من أربعة قرون تستحق أن يطلق عليها العصور الوسطى، حيث إنها كانت تعد بمثابة مرحلة انتقالية حقيقية بين الأساليب القديمة والحديثة».
وقد عكف ابن رشد على شرح أعمال أرسطو ثلاثة عقود تقريباً، وكتب تعليقات على جل فلسفاته ما عدا كتاب السياسة حيث لم يكن متاحاً لديه. وقد كانت أعمال ابن رشد الفلسفية أقل تأثيراً على العالم الإسلامي في العصور الوسطى منها على العالم المسيحي اللاتيني وقتها، كما يدل على ذلك حقيقة أن الأصل العربي لكثير من أعماله لم يعش، بينما ظلت الترجمات اللاتينية والعبرية موجودة. ومع ذلك فإن أعماله وعلى وجه التحديد موضوعات الفقه الإسلامي والتي لم تترجم إلى اللاتينية أثرت بالطبع في العالم الإسلامي بدلاً من الغرب. وقد تزامنت وفاته مع وجود تغيير في ثقافة الأندلس. والترجمات العبرية لأعماله كان لها تأثير لا ينسى على الفلسفة اليهودية، خاصةً الفيلسوف اليهودي جرسونيدس الذي كتب شروحاً فرعية على العديد من أعمال ابن رشد. وفي العالم المسيحي استوعب فلسفته سيجار البرابانتي، وتوما الأكويني وغيرهم (وخصوصاً في جامعة باريس) من المجالس المسيحية التي قدرت المنطق الأرسطي. وقد اعتقد بعض الفلاسفة مثل توما الأكويني أن ابن رشد بلغ مكانة من الأهمية لدرجة أنهم لم يكونوا يشيرون له باسمه بل يدعونه ببساطة «المعلق» أو «الشارح»، وكان يطلقون على أرسطو «الفيلسوف». وتأثراً بفلسفات ابن رشد فقد أسس الفيلسوف الإيطالي بيترو بمبوناتسي مدرسة عرفت باسم «المدرسة الأرسطية الرشدية».
أما عن علاقته بأفلاطون فقد لعبت رسالة ابن رشد وشرحه لكتاب أفلاطون «الجمهورية» دوراً رئيسياً في نقل وتبني التراث الأفلاطوني في الغرب، وكان المصدر الرئيسي للفلسفة السياسية في العصور الوسطى.
من ناحية أخرى، كان العديد من اللاهوتيين المسيحيين يخشون فلسفته حتى أنهم اتهموه بالدعوة إلى «الحقيقة المزدوجة» ورفضه المذاهب التقليدية التي تؤمن بالخلود الفردي، وبدأت تنشأ أقاويل وأساطير واصفة اياه بالكفر والإلحاد في نهاية المطاف، واستندت هذه الاتهامات إلى حد كبير إلى التأويل الخاطئ لأعماله.
ذم الكنيسة له
لكن ابن رشد لم يسلم من ألسنة رجال الكنيسة؛ فقد ذَمُّوه بكل شفة ولسان، وطعنوا عليه أقبح طعن؛ فقد قال عنه بترارك: «إنه ذلك الكلب الكلب الذي هاجه غيظ ممقوت؛ فأخذ ينبح على سيده ومولاه المسيح والديانة الكاثوليكية». وأما دانتي فقد جعله في هدوء ووقار يتبوَّأ مقعده في الجحيم جزاء له على كفره واعتزاله.
وللحديث بقية
رئيس حزب الوفد