نون والقلم

عبد الرحمن شلقم يكتب: ليبيا الهوية… وحدة الدولة الريعية

استقلت ليبيا سنة 1951 تحت اسم المملكة الليبية المتحدة، ونُصِّب إدريس السنوسي ملكاً عليها. دولة اتحادية تتكون من ولايات ثلاث؛ برقة وطرابلس وفزان. المرحلة التي عاشتها البلاد قبيل الاستقلال أسهمت في وضع بعض الملامح لما شهدته في السنوات الأولى للعهد الجديد. احتلت بريطانيا كلاً من إقليم برقة وطرابلس، في حين دخلت قوات فرنسا الحرة إلى إقليم فزان. في برقة أعطت القوات البريطانية بعض المرونة الإدارية للإقليم، وتولت بعض الشخصيات الوطنية إدارة بعض المرافق، في حين قامت القوات البريطانية في طرابلس بكل أمور الإدارة. أما في إقليم فزان، فقد مارست القوات الفرنسية كل أساليب الاستعمار التقليدي العنيف. إلحاق إقليم فزان بالجزائر كان خياراً سياسياً لكثير من القادة الفرنسيين والحرب العالمية الثانية لم تضع كل أوزارها بعد.
دول الحلفاء لم تتفق على مستقبل البلدان التي كانت تحت سطوة استعمار دول المحور. استقلال ليبيا لم يتقرر بعد من حيث المبدأ. كانت البلاد في عمومها أرض حرب، لكن بعد هزيمة إيطاليا ومغادرة قواتها مع الفيلق الأفريقي الألماني، رفع القادة الليبيون من كل أنحاء الوطن وتيرة نشاطهم المحلي والدولي، من أجل تحقيق هدف الاستقلال.
في اللقاءات والمؤتمرات التي عقدها الحلفاء المنتصرون طُرح مستقبل ليبيا، وبسبب الخلاف بينهم رفع الأمر إلى منظمة الأمم المتحدة وكان قرار الاستقلال. كان المزاج السياسي في إقليم طرابلس، ومعه نخبة من برقة تصر على الوحدة الكاملة بين الأقاليم الثلاثة، ورأى زعماء طرابلس أنهم الأحق بتسنم قيادة الدولة، بحكم الكثافة السكانية والطبيعة الحضرية لغالبية الإقليم. في النهاية وبعد جهود دولية ووعي وطني تم اختيار الجمعية الوطنية، التي صاغت الدستور. بعد نقاش طويل أصر أعضاء برقة وفزان على إقرار النظام الاتحادي، في حين تشبث أغلب ممثلي طرابلس بالاندماج التام. شهد إقليم طرابلس تأسيس كثير من الأحزاب بحكم الكثافة السكانية ودرجة الوعي السياسي. كل تلك الأحزاب كانت ضد النظام الاتحادي، باستثناء حزب الاستقلال. في إقليم برقة، مثلت جمعية عمر المختار تكتلاً سياسياً فاعلاً متماهياً مع توجهات الوحدة الكاملة للبلاد. كان الوقت عاملاً ضاغطاً، إذ حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة بداية عام 1952 لإتمام الاستقلال. وفي النهاية تم التوافق بين الأطراف الثلاثة على ما يلي: إقرار النظام الاتحادي – الفيدرالي – بين الأقاليم الثلاثة. إقرار النظام الملكي للحكم في الدولة، ومبايعة إدريس السنوسي أمير برقة ملكاً على المملكة الليبية المتحدة الوليدة. مباشرة بعد إعلان الاستقلال، قام الملك بتعيين رئيس للحكومة ووالٍ على كل إقليم. مع بداية ممارسة العمل الإداري على المستوى المركزي والولايات، برز تضارب في الصلاحيات بين الطرفين. فالوالي وفقاً لقوانين الولايات هو ممثل للملك، وبالتالي فهو لا يخضع لما يصدر عن رئيس الحكومة الاتحادية.
لتجاوز هذه المشكلة المبكرة تمّت إقامة مجالس تنفيذية في كل ولاية تتولى مهام الحكومة الإقليمية بالولايات، أي وزارة تنفيذية في كل ولاية تتكون من «نظار» يرأسهم رئيس لمجلسهم التنفيذي. ورغم ما كلف إنشاء هذا الجسم الجديد من التزامات مالية على كاهل دولة فقيرة وليدة، فإنه حقق نتائج لم تكن مستهدفة من إنشائه، وهي:
أولاً: ضم المجلس التنفيذي في الولايات شخصيات (نظاراً) لهم وزنهم الاجتماعي وحكمتهم التي كانت عصارة سنوات المعاناة ومواجهة الاستعمار، وقربهم من الشرائح المختلفة لأبناء مناطقهم.
ثانياً: في كل ولاية مجلس تشريعي منتخب يتولى متابعة أعمال المجلس التنفيذي، ويختار أعضاء مجلس الشيوخ عن الولاية، ورغم محدودية التجربة السياسية للطرفين أعضاء المجلس التنفيذي والتشريعي، فإن العقلية التقليدية الموروثة القائمة على تقدير الصغير سناً لمن هو أكبر منه، وحكمة التجربة وترابط المكونات المتحدر منها هؤلاء الشخصيات، تخلقت لغة تواصل تنبع من الود والتقدير المتبادل بينهم.
ثالثاً: هذه الشخصيات شكّلت خيوطاً للتواصل بين المركز الإقليمي للحكم والقواعد الشعبية على المستوى القبلي والفضاء الاجتماعي، خصوصاً أن أغلب تلك الشخصيات كانت ميسورة الحال مالياً بمعايير ذلك الزمان، فكانوا يقدمون يد المساعدة للمحتاج من رواتبهم، بل من أموالهم الخاصة.
رابعاً: لم تكن هناك درجات بيروقراطية تمنع بسطاء الناس من التواصل مباشرة مع من يتولى أي موقع تشريعي أو تنفيذي.
كل ذلك خلق منظومة نوعية للتواصل في داخل المكون الاجتماعي والسياسي الجديد.
استمر هذا الوضع السياسي والإداري عقداً من الزمن في المملكة بنظامها الاتحادي المثلث، إلى أن أعلنت الوحدة وإلغاء النظام الاتحادي في 25 – 4 – 1963، في عهد رئاسة الدكتور محيي الدين فكيني للحكومة، واستقبل الليبيون هذا العمل التاريخي بفرح عارم في كل أنحاء البلاد. قيل الكثير عن الدوافع التي جعلت الملك إدريس يتخذ قراره بإعلان الوحدة وإلغاء النظام الاتحادي. هل هو اكتشاف النفط في ولايتي فزان وبرقة وتدخل الشركات النفطية الأجنبية وضغطها، من أجل تفادي كثير من المشكلات التي ستثار بين الولايات على الثروة «القادم الجديد»؟ أم محاولة الانقلاب العسكري في العام الذي سبق إعلان الوحدة؟ أم الضغط الشعبي الذي لم يتوقف عن المطالبة بها؟ يمكن أن يكون كل ذلك أو بعضه وراء القرار. من دون شك كانت الوحدة خطوة وطنية مهمة، لكنها خلقت ارتدادات حساسة لم يتم تقديرها في حينها والوقوف عندها.
تحول النظام إلى الحكم المركزي، تجمعت أدواته في العاصمة طرابلس بعد نظام اتحادي كانت للأطراف فيه، وهي الولايات، مساهمة مكانية كبيرة. غاب عن المشهد السياسي والإداري فيه رموز اجتماعية فاعلة امتلكت قدرات زعامية إدارية وسياسية، ومثلت حلقات وخيوط اتصال اجتماعي وسياسي مع شريحة واسعة من الشعب. ألغيت المجالس التنفيذية التي كان أعضاؤها نظار القطاعات في الولايات، وهي عناصر من الوزن المحلي الثقيل، وكذلك أعضاء المجالس التشريعية في الولايات. انتقلت معظم الشخصيات السياسية في الإقليم إلى العاصمة في وظائف تنفيذية، وغادر بعضها إلى مدنه أو قراه. عُيّن في المحافظات العشر الجديدة موظفون عاديون، لا مؤهلات قيادية اجتماعية لهم، في وظائف مديرين ليحلوا محل النظار، وقد كان لذلك أثر كبير. المركزية التي ترتبت على الوحدة في دولة تعاني من ضعف آلة الإدارة، يقود حكوماتها رجال من الجيل القديم، يفصل بين أقاليمها مفازات شاسعة، تعاني من ضعف بيّن في الاتصالات والمواصلات، واقتصاد يعاني من غياب القدرة على الإنتاج سواء الزراعي أو الصناعي، كل ذلك كان له انعكاس على التكوين السياسي والاقتصادي والاجتماعي الجديد. كان الأمر سيختلف إذا ترافقت الخطوة الجديدة (الوحدة) مع تعديل دستوري سمح بقيام الأحزاب السياسية والنقابات التي تشكل لحمة حيوية ذات فاعلية سياسية في التكوين الوطني الجديد.
مع تدفق إيرادات النفط تخلقت عقلية ريعية غيرت سلوك الحاكم والمحكوم واتجه الجميع نحو الوظيفة العامة. وبدأت العقلية الزبونية، ولد بلد آخر، لم يحتفظ بما كان لديه من منظومات سياسية واجتماعية موروثة، ولم يستحدث أجساماً مؤهلة لقيادة الوطن الموحد الجديد. مال سهل يتدفق من الأرض، ولكن ليست له ضفاف وطنية فوقها.

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط السعودية 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى