الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في الجامعة الأمريكية بالقاهرة قبل أيام يجب أن نتوقف عنده مطولا لأسباب كثيرة.
في مقدمة هذه الأسباب أن الخطاب يتعلق بنا نحن؛ أي يتعلق ببعض من أهم قضايانا نحن في الوطن العربي. السبب الآخر أن هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها الوزير الأمريكي مثل هذه الرؤية العامة لسياسات الإدارة الأمريكية تجاه هذه القضايا.
هناك جوانب كثيرة في الخطاب تستحق النقاش والتوقف عندها. لكن نتوقف بدايةً عند قضية الموقف من إيران، وما يعنيه ما قاله بهذا الخصوص.
كما بات معروفا، فإن الموقف من إيران كان القضية الكبرى التي تطرق إليها بومبيو في خطابه، وقد عبَّر هنا عن موقف أمريكي حاسم بمواجهة إيران وإرهابها في المنطقة هي والقوى العميلة لها وفي مقدمتها حزب الله والمليشيات التابعة في سوريا والعراق.
هذا الموقف دفع بعض الكتاب العرب إلى اعتبار أن موقف بومبيو الذي عبَّر عنه في الخطاب يعتبر بمثابة إعلان حرب على إيران والقوى التابعة لها، وأن هذه الحرب يمكن أن تندلع في أي وقت. أحد الكتاب العرب قال بهذا الصدد إن «أخطر ما قاله وزير الخارجة الأمريكي هو قوله: يجب أن ننتقل من مرحلة احتواء إيران إلى مرحلة مواجهتها.. وإن عهد التقاعس الأمريكي انتهى وسنمنع تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، فهذه لغة تعكس سيناريو حرب معدًّا سلفا، وقد يكون موعد التنفيذ قريبا».
هذا ليس صحيحا. ليس صحيحا أن خطاب ترامب يعتبر بمثابة إعلان حرب على إيران. ولمعرفة هذا ما علينا سوى أن نجيب عن السؤال: لماذا ألقى بومبيو الخطاب في هذا التوقيت بالذات؟.. ما الجديد الذي طرأ واستدعى هذا؟
الجواب ببساطة أن الذي دفعه إلى إلقاء الخطاب هي التطورات الأخيرة. ونعني بالتطورات الأخيرة تحديدا ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي ترامب حين أعلن فجأة قراره سحب القوات الأمريكية من سوريا بكل ما أثاره القرار من حيرة وتكهنات ومخاوف.
ولم يقف الأمر عند القرار في حد ذاته، وإنما فاقم من المخاوف والحيرة التصريحات التي أدلى بها ترامب بعد ذلك حين تحدث عن سوريا باعتبار أنها مجرد رمل ودماء ولا تستحق البقاء فيها، وحين عبر عن عدم اكتراثه بما تفعله إيران في سوريا أيا كان.
هذه التصريحات، ومعها قرار الانسحاب كانت لها تداعيات وردود فعل سلبية كثيرة على مستويات عدة.
مواقف وتصريحات ترامب أعطت الانطباع العام بدايةً بأن الإدارة الأمريكية لم تعد تكترث كثيرا بما يجري في المنطقة، ولم تعد مهتمة بأن تلعب دورا فاعلا مؤثرا.
ومن الطبيعي أن تثير هذه المواقف والتصريحات قلقا شديدا لدى حلفاء أمريكا في المنطقة، حتى لو لم يعبِّروا علنا عن هذا. من الطبيعي أن تثار تساؤلات حول مصداقية أمريكا والتزاماتها، وحول مدى صحة الوثوق في مواقفها أو الاعتماد عليها، وخصوصًا فيما يتعلق بقضية مواجهة الخطر الإيراني على المنطقة.
أيضا، كثيرون اعتبروا عن حق أن ما قاله ترامب يمثل تراجعا عن مواقفه وسياسته المعلنة تجاه إيران وخطرها رغم العقوبات المفروضة، ويعتبر بمثابة تشجيع لها على المضي قدما فيما تفعله ليس في سوريا وحدها وإنما في كل المنطقة.
على خلفية من هذه التداعيات وردود الفعل، كان الحرص على أن يلقي بومبيو هذا الخطاب ويعبر فيه عن هذه المواقف.
بومبيو أراد ببساطة أن يبدد هذه المخاوف، وأن يوضح أن مواقف وتصريحات ترامب الأخيرة لا تعني تحولا أو تراجعا عن سياسات الإدارة المعلنة.
بعبارة أدق، أراد بومبيو أن يوجه رسالتين بالأساس عبر خطابه:
الرسالة الأولى، لحلفاء أمريكا في المنطقة، مؤداها أن الإدارة الأمريكية لا تتخلى عن حلفائها، ولم تغير من التزاماتها معهم، وبالأخص فيما يتعلق بمواجهة الخطر الإيراني.
والرسالة الثانية، للنظام الإيراني، ومؤداها أيضا أن الإدارة لم تتخل أبدا عن عزمها على مواجهة خطر إيران وعملائها، ولا عن عزمها على العمل على إنهاء المخطط الإيراني في المنطقة، بالعكس هي تعتزم تصعيد هذه المواجهة.
لكن كل هذا لا يعني من قريب أو من بعيد أن خطاب بومبيو يعتبر إعلانا لحرب أو مؤشرا لإمكانية اندلاع حرب مع إيران.
هذا أبعد ما يكون عن تفكير ترامب والإدارة الأمريكية عموما.
مواجهة أمريكا مع إيران لن تتعد في كل الأحوال المواجهة السياسية عبر العقوبات أو عبر دعم الدول العربية في تصديها للخطر الإيراني.
ولنلاحظ أن بومبيو لم يأت بجديد. كل ما في الأمر انه أعاد تأكيد المواقف السابقة قبل التطورات الأخيرة.