في الشهور الأخيرة من العام الماضي، كانت هناك آمال تتزايد بأن نكون قريبين من بداية النهاية لحقبة من المعاناة التي عاشتها المنطقة، والتي خلّفت وراءها دماراً هائلاً ودولاً تم تفكيكها، وشعوباً عانت الأهوال من تآمر أعداء الخارج، ومن خيانة من باعوا الأوطان وتاجروا بالدين واتخذوا من الإرهاب سبيلاً لتدمير كل ما هو طيب وجميل في حياتنا.
كانت مسيرة الإنقاذ التي بدأت مع إسقاط حكم الإخوان الفاشي في مصر، قد أثمرت استقراراً في أجزاء عدة من الوطن العربي كانت مهددة بمصير سوريا والعراق وليبيا نفسه، وكان التحالف العربي بين مصر والإمارات والسعودية والبحرين قد ثبت أركانه ليصبح قاعدة أساسية لحماية الاستقرار ومواجهة المخاطر، وكان العالم كله قد أدرك النتائج الكارثية للتسامح مع الحركات الإرهابية، ولغض الطرف عن مخاطر التغاضي عن سعي بعض القوى الإقليمية لمد النفوذ ولإثارة الحروب الأهلية للعصف بما تبقى من استقرار في المنطقة. وكانت الدول الكبرى تراجع سياسات نشر الفوضى التي تصورت قيادات الولايات المتحدة في فترة سابقة أنها تخدم مصالحها (!!)، والتي استغلتها قوى أخرى لتجعل من المنطقة ساحة للحروب بالوكالة، ومصدراً لميليشيات الإرهاب، وتهديداً لاستقرار العالم.
قبل شهور. كانت الأوضاع – رغم استمرار المخاطر والمعاناة – تشير إلى بعض الانفراج، في سوريا كانت ميليشيات الإرهاب الداعشي الإخواني تتلقى ضربات قاصمة، وكانت الدولة تستعيد بعض عافيتها، وكان واضحاً أن الحرب قد أنهكت الجميع، وأن توافقاً بين واشنطن وموسكو يتبلور على حل يوقف المأساة وينهي احتمال الصدام بين القوتين الأضخم عسكرياً ولو بطريق الخطأ في ساحة يتقاتل فيها الجميع على حساب الدم السوري، وفي ظل الغياب العربي.
وفي اليمن الشقيق، كان التصدي العربي للتدخل الإيراني، والضربات الساحقة لميليشيات الحوثي، عاملاً حاسماً في فتح الباب أمام الحل السياسي المستهدف عربياً من البداية، واضطر الحوثيون للذهاب إلى السويد بعد طول تهرب من الالتزام بالقرارات الدولية والاستمرار في تنفيذ الأجندة الإيرانية على حساب شعب اليمن ودماء أبنائه، ومع توقيع اتفاقية «استكهولم» كانت الآمال بقرب إنهاء المأساة أكبر من كل الشكوك في أن يستمر الحوثيون في طريق أدركوا أن نهايته هي الانتحار.
وحتى في ليبيا التي تحولت إلى كانتونات تحكمها الميليشيات التي لم يعد خافياً من يدعمها. كانت الأوضاع تتهيأ للأفضل. وكان الجيش الليبي بقيادة حفتر – رغم الحصار المفروض على تسليحه – يمد سيطرته ويستعيد جزءاً من كيان الدولة ويحمي ثرواتها. وكانت الجهود الدولية تتضاعف من أجل إنهاء المأساة الليبية. وكانت دول أوروبا – وبعضها شارك في صنع المأساة مع أطراف عربية وإقليمية!!- تدرك حجم الكارثة التي تسببت فيها أو سكتت عنها، والتي أصبحت مصدر خطر على أوروبا نفسها. وليس فقط على دول الجوار كما كان يستهدف صناع الفوضى ورعاة الإرهاب!!
لكن هذه الآمال في وضع نهاية لسنوات الدمار التي شهدتها المنطقة منذ بداية القرن، اصطدمت بواقع تبدو فيه العراقيل كبيرة، وتنفتح فيه كل الأبواب على كل الاحتمالات. بما فيها أن تشهد صدامات أكبر وأشد ضراوة قبل أن تستقر الأوضاع!
وربما كان قرار الرئيس الأمريكي ترامب الانسحاب من سوريا قد تم اتخاذه لأسباب داخلية أمريكية، لكنه كان كاشفاً لهشاشة الأوضاع في مناطق النزاع، ولضعف التوازنات الدولية القادرة على صنع الاستقرار في المنطقة وفي العالم كله.
وجاء القرار في ظل اضطراب الأوضاع في الاتحاد الأوروبي، وغياب أي دور مؤثر له، خاصة بعد المشكلات التي تمر بها فرنسا، وبعد انشغال ألمانيا في الاستعداد لمرحلة ما بعد ميركل.
وجاء القرار أيضاً في ظل إدراك روسيا أن قدرتها على توسيع نفوذها السياسي وتواجدها الاستراتيجي محدود في النهاية، بقدراتها الاقتصادية، وأن تجاوز ذلك قد يعرضها لمخاطر هائلة.
في ظل هذه الأوضاع نجد أن قوى تحاول أن تستعيد فاعليتها. في سوريا. تصورت حكومة أردوغان أن شمال سوريا قد أصبح مستباحاً أمامها، وعاد الدواعش ليلعبوا دورهم وليقولوا إنهم مازالوا موجودين، وما زال مستقبل التواجد الإيراني هناك رهناً بالتوافقات مع روسيا وبمستقبل النظام.
وفي اليمن جاء قصف قاعدة العند في «لحج» من طائرة مسيّرة إيرانية، ليقول بوضوح إن الحوثيين لا يريدون السلام، وأن اتفاق استكهولم كان بالنسبة لهم مجرد كسب للوقت واستعداد أكبر للحرب، وأن طهران لن تترك موقعها هناك إلا مرغمة، وأن استهدافها للخليج العربي وللدول العربية كلها قد تحول إلى عقيدة عند أئمة الإرهاب في إيران.
وفي ليبيا يبدو مشهد التآمر متكاملاً، السفن التركية تهرّب السلاح إلى جماعات الإخوان والدواعش، وهو سلاح لا يحتاجه الاقتتال الداخلي هناك، لكنه يعرف طريقه إلى الإخوان والدواعش في مصر وتونس والجزائر وباقي دول الجوار. والخطر هنا أن الجهود تبذل هناك لتوحيد جهود الإخوان والقاعدة والدواعش بدعم قطري ومساعدات تركية تريد أن تجعل من ليبيا المنكوبة مقراً وملاذاً للإخوان والدواعش «العائدين من سوريا».. وتلقى في ذلك تشجيعاً من قوى خارجية عدة.
ربما لكل هذه الأسباب تعود الولايات المتحدة الأمريكية لتقول إن انسحابها من سوريا لا يعني انسحابها من المنطقة، ويأتي وزير الخارجية الأمريكي ليؤكد على استمرار الحرب ضد الإرهاب والموقف الحاسم من إيران حتى تتوقف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى وتوقف دعمها لميليشيات الإرهاب.
في محاضرته بالجامعة الأمريكية بالقاهرة اعترف وزير الخارجية الأمريكي بومبيو بأن الولايات المتحدة أخطأت في تقدير قوة وشراسة المتطرفين «قاصداً بالطبع سياسة إدارة أوباما الديمقراطية».. لكن السؤال يبقى: كيف يتم تصحيح هذا الخطأ.. بالتأكيد ليس بالانسحاب من المواجهة، ولا بترك الفرصة لجماعات الإرهاب لالتقاط الأنفاس واستعادة القدرات التدميرية، ولا بترك «الإخوان» خارج قوائم الإرهاب!! وبإدراك أن المساهمة في استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط ليس عبئاً على أمريكا، وإنما هو ضمان لمصالحها.
.. ثم يبقى ما لا ينبغي أن نتوقف عن الإيمان به والعمل بمقتضاه، وهو أن نمضي في بناء قوتنا الذاتية العربية، لأنها وحدها ضمان الأمان.