مازلنا بصحبة الفيلسوف الكبير «ابن القيم» الذى يرى أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة هي الأصل الأول للاستنباط الذي لا ينبغي تجاوزها إلى ما سواها ما لم يوجد الحكم الفقهي فيها، وأنه ليس في السنة الصحيحة ما يعارض القرآن من أي وجه، بل يقسّم السنة إلى سنة موافقة شاهدة بنفس ما جاء في القرآن، وسنة مُفسرة، وسنة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب.
فالسنة قد تزيد على القرآن، وهذه الزيادة من الدين لا يسع أحد رفضها فيقول: «وليس هذا تقديمًا لها على الكتاب بل امتثالًا لما أمر الله به من طاعة رسول الله»، كما يرى أن الأحاديث الصحيحة لا تتعارض فيما بينها؛ فإذا كان هناك تعارض في الظاهر كان مرجعه إلى ثلاثة احتمالات: أنه ليس بحديث، أو أن أحدهما ناسخ للآخر، أو أن التعارض في فهم السامع لعدم قدرته على الفهم لا في الحقيقة.
أما عمل أهل المدينة فيأخذ به إذ لم يخالف السنة الصحيحة. كما يؤخذ بالإجماع ويعتبره حجة؛ ولكنه استبعد ادعاء معرفته، فيقول: «فإن علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم.»، وقال: «ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب والسنة على الإجماع، وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة».
كما يرى الأخذ بفتوى الصحابة وفتوى التابعين فيُفصَّل في ذلك قائلًا: «جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوي الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاواهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين، وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب»، ومن الأصول الشرعية التي يعتمد عليها القياس، وقد ذكر أقسامه ورد على شُبهة المنكرين له في كتاب إعلام الموقعين. ويأخذ بالاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع كسائر الحنابلة. كما يعتمد العُرف ويأخذ منه الأحكام.
وناقش ابن القيم مسألة الحسن والقبح العقليين أكثر من مرة في كتبه مثل: مدارج السالكين وشفاء العليل ومفتاح دار السعادة، وانتهى إلى أن حُسْن الأشياء وقُبْحها، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة العقل دون ترتيب ثواب أو عقاب على ذلك، بينما التكليف لا يكون إلا بعد بعثة الرسل ونزول الأمر الإلهي. فيقول: «إنّ الكذب لا يكون قط إلاّ قبيحاً، إنّ تخلّف القبح عن الكذب لفوات شرط أو قيام مانع يقتضي مصلحة راجحة على الصدق لا تخرجه عن كونه قبيحاً لذاته». وقال: «وأنه – أي الشرع – لم يجئ بما يخالف العقل والفطرة، وإن جاء بما يعجز العقول عن أحواله والاستقلال به، فالشرائع جاءت بمحارات العقول لا محالاتها، وفرق بين ما لا تُدرك العقولُ حسنه وبين ما تشهد بقبحه، فالأول مما يأتي به الرسل دون الثاني».
واهتم ابن القيم بذكر مسألة بطلان الحيل اهتمامًا شديدًا، حيث ذكرها في كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، وكررها في كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ذكر فيها بطلان الحيل والخداع التي أخرجها الناس باسم الدين.
ذكر ابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح مسألة بقاء النار وفنائها، حيث جمع أقوال المؤيدين والمعارضين لهذه المسألة، وأشار إلى أن ابن تيمية قد حكى بعض هذه الأقوال. وابن القيم له قولان في هذه المسألة، حيث مال إلى القول بفناء النار، وقواه وأيده بالأدلة في حادي الأرواح وشفاء العليل، ثم قال بأبدية النار وعدم فنائها في كتابيه الوابل الصيب من الكلم الطيب وطريق الهجرتين وباب السعادتين.فقال في الوابل الصيب: «وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين، فالله تعالى يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء المتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس فيها إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد.
وللحديث بقية
رئيس حزب الوفد