لا شك أن مصر فى مرحلة إعادة بناء على شتى المستويات، بعد أن عاشت عقوداً طويلة فى حالة جمود أدت إلى تخلفها وتراجعها عن محيطيها الإقليمى والدولى.. ثم جاءت ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث متلاحقة ومتسارعة لتكون كاشفة وبجلاء عن عمق الأزمات داخل المجتمع المصرى، وجاء على رأسها الخديعة الكبرى التى تعرض لها الشعب باسم الدين تحت مسميات وشعارات مختلفة؛ منها الإسلام هو الحل، ومشروع النهضة الكبرى وغيرهما من المسميات الرنانة التى كانت تدغدغ مشاعر البسطاء إلى أن سقطت كل الأقنعة بعد أن لامس وعايش الجميع حجم الخديعة بنفسه فى كل مكان على أرض مصر.. لذلك جاء الانفجار الشعبى فى 30 يونيه عفوياً وطبيعياً من شتى الفئات والطوائف إعلاناً بسقوط هذه الجماعات التى تتاجر باسم الدين.
كل هذه الأحداث وغيرها التى شهدتها مصر منذ 25 يناير وحتى الآن قفذت إلى ذهنى أثناء متابعتى افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسى جامع الفتاح العليم، وكنيسة ميلاد المسيح.. ومع فخرى كمصرى بإنجاز هذين المشروعين العملاقين فى وقت قياسى وبهذا الحجم.. إلا أن سعادتى الأكبر كانت فى مغذى هذه الرسالة داخلياً وخارجياً عندما شاهد الملايين مشاركة قداسة البابا تواضروس الثانى افتتاح الجامع.. وبعدها بدقائق شارك فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب فى افتتاح الكاتدرائية وجاءت كلماته كاشفة لمغالطات كثيرة سادت المجتمع خلال العقود الماضية، وكانت سبباً فى دعوة الرئيس السيسى فى أكثر من مناسبة إلى ضرورة تجديد الخطاب الدينى لمواجهة كل هذه المغالطات التى سادت المجتمع؛ بسبب فوضى الفتاوى فى الفضائيات والمساجد وغيرهما، وأدت إلى التشدد والتطرف والإرهاب، ثم كانت سبباً فى اختطاف فى البلاد عندما تم توجيه الفتاوى سياسياً وتحولت المساجد إلى منابر سياسية لتوجيه وخداع الناس.. ومع أننا قطعنا خطوات جادة فى تجديد الخطاب الدينى إلا أننى أرى رسالة افتتاح الجامع والكاتدرائية فى آن واحد أكبر وأعمق من كل الكلمات.. ولعل أهم التعبيرات التى سمعتها جاءت على لسان قداسة البابا تواضروس الثانى أثناء مرافقتى للمستشار بهاء الدين أبوشقة، رئيس الوفد، للمشاركة فى احتفال عيد الميلاد المجيد، وقال لنا قداسته إنه تلقى رسالة على الموبايل من أحد المواطنين يقول له، الناس متلخبطة، القناة المسيحية بتذيع احتفالات أعياد الميلاد، وفجأة جابت البابا بيلقى كلمة فى المسجد، وبعدين الإمام الأكبر بيلقى كلمة فى الكاتدرائية، وأضاف قداسة البابا أن ما يحدث يذكرنا بأحداث ثورة 1919 التى تعد أشهر ثورة وطنية فى التاريخ المصرى عندما ارتفعت خلالها شعارات عاش الهلال مع الصليب، والدين لله والوطن للجميع.
هذا التوجه الذى تسلكه الدولة المصرية لترسيخ مفهوم دولة المواطنة لا يجب أن يتوقف عند حدود فكرة تجديد الخطاب الدينى فقط وإنما يجب أن يكون هناك تجديد للخطاب المجتمعى بشكل عام لتصحيح كثير من المفاهيم والثقافات الخاطئة والمغلوطة التى انتشرت وتجذرت فى هذا المجتمع وتحولت إلى ظواهر دخيلة على مجتمعنا وتهدده فى هويته التى عاش وانفرد بها لمئات السنين.. ومما لا شك فيه أن عملية تجديد الخطاب المجتمعى فى المجالات الدينية والسياسية والثقافية والفنية والرياضية لا يمكن أن تحدث واقعياً بقرارات سيادية أو إجراءات حكومية.. وإنما تحتاج إلى تضافر كل الجهود وعلى رأسها وسائل الإعلام والثقافة والتعليم ومنظمات المجتمع المدنى كبداية لإعادة الهوية المصرية عندما يختفى التعصب الدينى والرياضى والإسفاف الفنى والانتفاع السياسى والسطحية الثقافية والانتفاع التعليمى والصحى، وتختفى كل أشكال التلوث السمعى والبصرى وغيرها من الظواهر السلبية لإعادة الوجه الحضارى لمصر فى إطار الجهود التى تبذل لإعادة بناء الدولة الحديثة التى ننشدها جميعاً.
نائب رئيس الوفد