عندما بدأت مؤسسات السياسة الخارجية الأمريكية تبحث في نهاية القرن العشرين عن رؤية للسياسة الخارجية للقرن الجديد القادم، فقد حدثت عملية تفاعل بين أفكار كلها متأثرة بصدورها في فترة انتقال من حقبة من التاريخ سميت بالقرن الأمريكي، إلى حقبة جديدة تحمل من الشواهد ما يشير إلى أن القرن الجديد قد لا يكون كسابقه.
وشعار القرن الأمريكي حمل في بداية ظهوره وانتشاره في عام 1914، بريقاً للشعور القومي جعل الأمريكيين يشعرون بأنهم قادرون على أن يطبعوا العالم بطابعهم، في وقت كانت فيه شمس القوة الأمريكية تبزغ بقوة على العالم. وأن الآخرين سوف ينظرون إليها باعتبارها النموذج الملهم، والمثل الذي يحتذى.
وقد استحوذت الولايات المتحدة مع قوة صعودها على موازين القوة، ومفاتيح القيادة العالمية، حين آل إليها ميراث الإمبراطورية البريطانية في أوائل ستينات القرن العشرين، وإن كانت هناك قوى أخرى خلاف الولايات المتحدة تلعب أدواراً مؤثرة في العالم في تلك الفترة من التاريخ، منها روسيا، وفرنسا، وبريطانيا.
وأثناء تشخيص مؤرخين وعلماء السياسة الأمريكيين للقرن الأمريكي، فإن منهم من شبهه بصعود الإسكندر الأكبر، وظهور إمبراطوريته العظمى في القرن الرابع قبل الميلاد، وسيادة الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد، وإمبراطورية الصين في القرن الثالث عشر الميلادي، والإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، وكلها تمتعت بوضع الهيمنة في العالم.
ولما كان صعود دولة إلى أعلى مراتب النفوذ السياسي، والقوة المهيمنة في العالم، لا يأتي إلا إثر حدث بعينه مهما كان تأثيره، لكنه محصلة عملية متصلة الأحداث والحلقات، وبالنسبة للولايات المتحدة فقد كانت هذه الحلقات تتكون مما وصلت إليه الولايات المتحدة بدءاً من عام 1880 إلى تقدم في الإنتاج الصناعي، أوصل نصيبها من الإنتاج العالمي إلى 28.6% وبذلك تجاوزت الوضع الذي كانت تتمتع به بريطانيا كأكبر دولة صناعية في العالم، إضافة إلى ثرائها في الإنتاج الزراعي، والموارد الطبيعية، وبدء تشييدها أول سفن للبحرية من الصلب التي تسير بالبخار.
وتتابعت الحلقات باشتعال الحرب العالمية الأولى عام 1919 حين أصبحت الولايات المتحدة قوة عظمى بالفعل، وتحولها إلى منافس اقتصادي قوى لأوروبا، باستحواذها على ما يزيد على 35% من الناتج الصناعي في العالم، واحتلالها بسرعة المركز الذي كانت تشغله بريطانيا، كمركز للنشاط المالي العالمي.
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية عام 1939، لتظهر الولايات المتحدة كقوة عظمى مسيطرة على الشؤون الدولية، ورغم دخولها في صراع الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي فقد تمتعت بقدرات مادية إنتاجية وعسكرية، لم يسبق أن بلغتها قوة دولية أخرى، ولديها نظام لحركة مجتمع بالغة الدقة في تغذية شرايينه بأعلى المهارات من النوابغ والعلماء، وأصحاب الخبرات في العالم، وقفزة هائلة في التكنولوجيا الحديثة.
وكان يسند ذلك في الداخل توافق فريد بين توجهات الرأي العام، وصناع السياسة الخارجية، وفر لها أقصى تأييد لدورها السياسي في العالم. وضم هذا التوافق في إطاره، الأحزاب على اختلافها، والمفكرين المنتمين إلى اليمين واليسار، على السواء. إلى أن بدأت الولايات المتحدة تشهد منذ فترة حكم أوباما، وهو ما ازداد قوة، مع مجيء ترامب إلى الحكم، غياب مبدأ وطني يكون هادياً سليماً للدولة، يتوافق عليه الجميع.
وبدأت الانقسامات تظهر بقوة على مستويات الرأي العام، وأيضاً في صفوه النخبة التي كانت تؤسس لمعايير السياسة الخارجية المطلوب اتباعها. وبدأت الولايات المتحدة تظهر في مواقف سياسية خارجية، سواء مع المنافسين، أو مع الحلفاء، فاقدة الاتجاه والهدف.
ولعل البروفيسور فينسنت أوجر، أستاذ دراسات الأمن القومي بجامعة هارفارد، قد حاول تقديم تشبيه رمزي لهذه الحالة، فقال إن الساحة السياسية الأمريكية قد تحولت إلى ما يشبه لوحة تشكيلية تحت التكوين، تلقي إليها الأيدي بلون، ثم تقذف عليها أيدي أخرى، أو حتى الأيدي نفسها، بلون آخر قد يزيح اللون الأول من مكانه.
المشكلة الكبرى التي تواجه الولايات المتحدة الآن، تتمثل في رغبة عارمة في إبقاء أمريكا دولة مهيمنة، في حقبة زمنية صعدت فيها قوى دولية سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، إلى مستوى لا يسمح للولايات المتحدة عملياً، بالاحتفاظ بوضع الهيمنة.
وحتى لو ظلت متمسكة بهذا المفهوم، فإنه يمكن أن يقود إلى صدامات عسكرية، وهو أمر لم تعد الولايات المتحدة تتحمل نتائجه، ولن يتقبله الشعب الأمريكي.
لقد تجاوزت الولايات المتحدة عصر القرن الأمريكي، وهي الآن تعيش مرحلة انتقالية تعقبها صناعة نظام دولي جديد، ولابد أن تكون لقوى أخرى غيرها، إرادة في تحديد طبيعة هذا النظام، وشكله.