مازلنا فى رحاب الفيلسوف العلامة «ابن القيم» الجوزى. ويقول عنه «ابن كثير»: كان حسن القراءة والخلق كثير التودد، لا يحسد أحدًا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد وبالجملة كان قليل النظر فى مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق والفضيلة. ويقول أيضًا معتزًا بصحبته ومحبته له: «وكنتُ من أصحب الناس له وأحب الناس إليه». ويقول ابن رجب:«وكان رحمه الله تعالى ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر. وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته لم أشاهد مثله فى ذلك، ولا رأيت أوسع منه علمًا ولا أعرف بمعانى القرآن والسنة وحقائق الايمان أعلم منه وليس هو المعصوم ولكن لم أر فى معناه مثله.
وذكر أقرانه من العلماء أنه كان كثير العبادة شديد الورع، فقال ابن كثير: «لا أعرف فى هذا العالم فى زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقة فى الصلاة يطيلها جدًا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه فى بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى».
وتحدثت مصادر ترجمة ابن القيم عن اشتهاره بحب الكتب وجمعها، حتى تكونت لديه مكتبة كبيرة، يقول ابن كثير: «واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشرِه، من كتب السلف والخلف». وقال ابن رجب: «وكان شديد المحبة للعلم… واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره»، ويقول ابن حجر العسقلاني: «وكان مُغْرىً بجمع الكتب، فَحَصَّل منها ما لا يُحْصَر. وقد خلَّف ابن القيم مكتبة كبيرة جدًا، فيذكر ابن حجر أن أولاده ظلوا دهرًا يبيعون منها بعد موته، سوى ما اصطفوه لأنفسهم». وقد اقتنى ابن أخيه «عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن زين الدين عبد الرحمن» أكثر كتبه.
تصف معظم كتب التراجم مذهب ابن القيم بالحنبلى، وذلك لأنه نشأ فى مدارس هذا المذهب، بالإضافة إلى أن أسرته كانت تتمذهب به، وقد كان والده أبو بكر الزرعى قيمًا على «المدرسة الجوزية». ولكن ابن القيم بعدما شبَّ واتصل بشيخه ابن تيمية، حصل تحول بحياته العلمية، لا بمعنى تركه المذهب، وإنما أصبح يُعنى بالدليل من الكتاب والسنة، ويتبعه حتى لو كان ذلك مخالفًا لمذهبه.
وقد كان يحث على هذا الطريق، فيقول فى كتابه «مدارج السالكين»: «فيا أيها القارئ له، لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه، لك ثمرته وعليه تبعته، فما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله، ولا تلتفت إلى قائله، بل انظر إلى ما قال، لا إلى من قال، وقد ذمَّ الله تعالى من يردُّ الحق إذا جاء به من يبغضه، ويقبله إذا قاله من يحبه. فهذا خلق الأمة الغضبية، قال بعض الصحابة: اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضًا، ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا».
ويقول فى كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «ليحذر المفتى – الذى يخاف مقامه بين يدى الله سبحانه- أن يفتى السائل بمذهبه الذى يقلده، وهو يعلم أن مذهب غيره فى تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب فى خلافه؛ فيكون خائنًا لله ورسوله وللسائل وغاشًا له، والله لا يهدى كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للاسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرًا من تَرِدُ المسألة، نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتى بخلاف ما نعتقده، فنحكى المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق». ويعده بعض العلماء حنبليًا لا يخرج به عن دائرة المذهب، وبعضهم يعده مجتهدًا فى المذهب، وبعضهم يعده مجتهدًا مطلقًا. يقول ابن العماد الحنبلى فى ترجمته له: «الفقيه الحنبلى بل المجتهد المطلق». ويقول الشوكانى فى ترجمته: «شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلى، العلامة الكبير، المجتهد المطلق، المصنف المشهور». وقال ابن بدران فى منادمة الأطلال: «وترجمه العدوى، فقال: هو المجتهد المطلق، المفسر، المتفنن فى علوم عديدة».
.. وللحديث بقية
رئيس حزب الوفد