ليس هذا وقت التلهي بمن أعاد من الدول العربية فتح أبواب سفارته في دمشق ومن لم يفعل ذلك. هناك أسباب عملية تدعو الى تفادي أي غياب عربي سياسي في العاصمة السورية.
مثل هذا الجدل في شأن الفائدة من السفارة المفتوحة، او المغلقة، في دمشق، جدل له بداية وليست له نهاية. يعود ذلك الى ان الوجود الديبلوماسي العربي في دمشق لا يعني النظام بمقدار ما يعني سورية وشعبها وملء الفراغ، ايّ فراغ، تسعى إيران الى ملئه بكل الوسائل الممكنة.
الموضوع المطروح في مكان آخر مختلف كلّيا. يختزل الموضوع سؤال في غاية البساطة: هل لا يزال بشّار الأسد قادرا على حكم سورية، مع المحيطين به من افراد العائلة، على الرغم من إرادة شعبها وطموحاته البسيطة. في مقدّمة هذه الطموحات التمتع بحد ادنى من الكرامة والحرّية. هل لا تزال توجد سورية كي يحكمها بشّار او غيره ام انّ هذا جدل آخر تجاوزته الاحداث بعدما تفتت البلد وتكشفت حقيقة واحدة؟ تتمثل هذه الحقيقة في انّ النظام الاقلّوي اسّس للمرحلة الراهنة. مرحلة ذات عنوان واحد هو نهش سورية.
اثبتت السنوات الثماني الماضية، أي منذ اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، انّ هناك ثورة شعبية حقيقية. في أساسها انّ السوريين يرفضون النظام القائم… هناك أكثرية شعبية ترفض النظام الاقلّوي الذي أسسه حافظ الأسد في العام 1970 مستخدما أداة اسمها حزب البعث الذي كان رأس الحربة في الانقلاب الذي وقع في الثامن من مارس 1963 والذي مهّد لاستيلاء الضباط العلويين على السلطة في 23 فبراير 1966.
ما شهدته سورية كان سلسلة من الانقلابات العسكرية وصولاً الى احتكار حافظ الأسد للسلطة في نوفمبر 1970 وقفزه الى مقعد رئيس الجمهورية، في فبراير 1971 ليصبح بذلك اوّل علوي يحكم سورية علنا منذ الاستقلال.
المضحك المبكي في الامر ان النظام الذي انشأه الأسد لم يكن تحالفا للاقليات بمقدار ما كان سيطرة لاقلية على الاقلّيات الأخرى وتوظيفها في خدمة نظام قمعي لا يشبه سوى النظام الذي اقامه ستالين في ايّام الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر، او كيم ايل سونغ في كوريا الشمالية. مخطئ من يقول ان وضع المسيحيين في سورية تحسّن في ظل حكم الأسد الاب او الأسد الابن؟.
في ظلّ الأسدين الاب والابن، بات الدستور ينصّ صراحة على انه لا يحق للمسيحي ان يكون رئيسا لسورية. اكثر من ذلك، صار المسيحيون مهمّشين الى حدّ كبير، رغم انّهم كانوا يشكلون في الماضي نسبة 15 في المئة من السكّان في مقابل 12 في المئة للعلويين. لم يكن الهدف تهميش المسيحيين فحسب، بل شمل ذلك الدروز والاسماعيليين أيضا خدمة لطائفة معيّنة، في عهد الأسد الاب، ثم للعائلة في عهد الابن.
ليس تاريخ سورية الحديث سوى سلسلة من الإخفاقات أدت الى الوصول الى الوضع الراهن الذي يثير سلسلة من الأسئلة التي لم تعد مرتبطة بمصير النظام الذي صار في مزبلة التاريخ. تتعلّق هذه الأسئلة بتفكّك النسيج الاجتماعي وبالاحتلالات التي تعاني منها سورية، وهي احتلالات تجعل مستقبلها في مهبّ الريح. لعلّ افضل دليل على هشاشة الوضع السوري ما حصل بعيد اعلان الرئيس دونالد ترامب عن قرب انسحاب القوات الأميركية الموجودة شرق الفرات. كان الإعلان كافيا، بكل مساوئه، كي يشعر كل طرف من الأطراف الخارجية المعنية بسورية انّ عليه ملء الفراغ الذي سيخلفه الاميركي.
تحرّك التركي وتحرّك الايراني وتحرّك الروسي وتحرّك الإسرائيلي الذي شكّل الضمانة الاولى والأخيرة لبقاء حافظ الأسد في السلطة وتمكينه من توريث ابنه في العام 2000.
في السنة 2019، ليس الموضوع موضوع النظام السوري ومستقبله. الموضوع موضوع مصير سورية… انسحب الاميركي ام لم ينسحب. موضوع ما سيفعله التركي في الشمال السوري، خصوصا انّه يعد نفسه لمرحلة ما بعد الانتهاء من القيود التي فرضتها الاتفاقات والمعاهدات التي اضطرت تركيا الى التزامها بعد انهيار الدولة العثمانية.
في السنتين 1922 و1923، شعرت تركيا بانها تحررت من قيود المعاهدات والاتفاقات التي فرضتها هزيمتها في الحرب العالمية الاولى. ليس سرّا ان تركيا تعتبر ان مدنا مثل حلب في شمال سورية والموصل في العراق انتزعت منها بالقوّة.
إضافة الى ذلك، لا يمكن تجاهل الهمّ الكردي الدائم، وهو همّ لم يعرف الرئيس رجب طيب اردوغان التعاطي معه بالشكل الملائم. يعود ذلك الى انشغال اردوغان الدائم بكيفية المحافظة على احتكاره الشخصي للسلطة الذي تعبّر عنه الرغبة في اقصاء أي شخصية تمتلك حيثية سياسية او شعبية حتّى لو كانت تنتمي الى حزبه والى فكر الاخوان المسلمين بكلّ ما يحمله من تخلّف.
الموضوع أيضا متعلّق بالايراني الذي يسعى الى إيجاد موطئ قدم في سورية مستخدما «حزب الله» الذي لا يتوقف عن تثبيت قدميه وترسيخهما في كل المناطق، على طول الحدود اللبنانية – السورية، وعن طريق التواطؤ مع بشّار الأسد نفسه الذي يعرف تماما انّه موجود في دمشق لسبب إيراني، مرتبط بشخصه وطبيعة تفكيره، قبل أي شيء آخر.
الموضوع يتعلق، وكذلك الامر، بالروسي الذي يبحث عن من يشتري منه الورقة السورية. من الواضح انّ الروسي حائر ما فيه الكفاية. لا يستطيع التخلي عن ايران وعن الحلف الذي يربط بين موسكو وطهران… كما لا يستطيع تجاهل المخاوف الإسرائيلية من الصواريخ الايرانية الموجودة في سورية ولبنان والتي يمكن ان تغيّر كلّ التوازنات الإقليمية.
تبيّن مع مرور الوقت انّ ما حصل ابتداء من مارس 2011 لم يكن مجرّد ثورة شعبية ما لبثت ان أدت الى عودة الصراع على سورية. هناك بداية تغيير لخريطة المنطقة ولحدود الدول في ضوء إصرار تركيا على استعادة أراض تعتبر انها سلخت منها وإصرار ايران على تكريس وجود الهلال الفارسي. يمتدّ هذا الهلال من طهران الى بيروت عبر بغداد ودمشق. مشكلة ايران في انّها تستخدم الغرائز المذهبية من دون امتلاك القدرة، لاسباب اقتصادية قبل ايّ شيء آخر، على متابعة سياسية توسّعية ولعب دور القوّة المهيمنة في الاقليم.
من يعتقد ان الحرب في سورية شارفت على نهايتها وان النظام خرج منتصرا انّما هو واهم. كلّ ما يمكن قوله مع بداية السنة 2019 انّ التحولات الكبيرة في الشرق الاوسط التي انطلقت مع سقوط العراق في 2003 ووضع إيران يدها عليه دخلت مرحلة جديدة، مرحلة من ينهش اكثر من سورية بعدما ضمت إسرائيل الجولان نهائيا.
من الأفضل في هذه المرحلة ان تكون هناك قوى عربية قادرة على مراقبة ما يدور في دمشق عن قرب بغض النظر عن مدى قدرة هذه القوى على التأثير في سير الاحداث وتطورّها.