ثلاث دول عربية يمكن القول بأنها تكاد تكون وبنسبة كبيرة جدا، قد فقدت إمكانية العودة إلى وضعها الطبيعي كدول متماسكة السيادة والمجتمع على كامل الحدود الجغرافية المعترف بها دوليا وإقليميا، فالعراق وسوريا وليبيا، وهي الدول الثلاث المعنية بذلك، تعيش حالة تفكك وحربا أهلية طاحنة لم يسلم من شرارها البشر والحجر، ولم يتبق من الأركان السيادية للدولة في الأقطار الثلاثة سوى المركز السياسي لرأس الدولة، وتحديدا العراق وسوريا، أما ليبيا فتتقاسمها حكومتان كل منهما تدعي أنها تمثل الشرعية بعد إسقاط الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي بواسطة قوات حلف الناتو بدعم وغطاء من دول إقليمية عربية وغير عربية ساهمت في إضفاء «الشرعية» على العدوان كما حصل بالضبط مع الحالة العراقية ويحصل كذلك مع الحالة السورية.
لم تكن الطبيعة الاستبدادية لأنظمة الحكم في الدول الثلاث ولا المشاكل والمصاعب الداخلية التي عانت منها شعوبها، هي الأسباب الحقيقية وراء تفكك هذه الدول وانهيار وضعف أنظمتها السياسية، فهناك أنظمة حكم في الكثير من دول العالم أسوأ حالا، من حيث الطبيعة الاستبدادية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، لكنها بقت متماسكة ولم تتعرض لحالة من التدمير والتخريب والإسقاط القسري لكيانها السياسي، كما حدث ويحدث مع الدول العربية الثلاث، وبالتالي فإن حقيقة ما حدث ويحدث لهذه الدول من تدمير كامل لأركانها وقوتها السيادية على الأرض والشعب، ليس له علاقة بطبيعة النظام السياسي فيها.
من دون الدخول في تفاصيل ما يقف وراء الأسباب التي جعلت من هذه الدول حتى الآن تدفع الثمن الباهظ من سيادتها عزة شعوبها، يكفي التوضيح بأن الأنظمة السياسية في الدول الثلاث تحت سلطة وقيادة الرؤساء صدام حسين وبشار الأسد ومعمر القذافي استطاعت رغم كل الملاحظات على أدائها وممارساتها السياسية، أن تحافظ على كيان الدولة وتماسك المجتمع بكل مكوناته العرقية والدينية، وأن تؤسس قاعدة لبناء دولة قوية، بغض النظر عن الإهدار غير المبرر للثروة في غير مكانها، وتحديدا من جانب النظامين العراقي والليبي باعتبار ان الدولتين تتمتعان بإمكانيات مادية طبيعية كبيرة لا تملك سوريا مثلها.
فالأنظمة السياسية للدول الثلاث ليست هي واحدة من الأسباب التي عجلت ودفعت إلى استهدافها بكثر ما كان هناك هدف أكبر وأبعد من ذلك، فالأنظمة السياسية في الدول الثلاث لم تكن معادية وليست في أسوأ علاقاتها مع الدول التي عملت وشاركت في إسقاطها واستهدافها، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية وبعض الدول العربية والإقليمية التي لها دور ومشاركة في تدمير هذه الدول، وهذا ما يؤكد أن تلك الأنظمة ليست هي الهدف وإنما هي الغطاء للوصول إلى ذلك الهدف الذي بدأت ملامحه تتضح بعد الغزو الأمريكي للعراق وما أعقب ذلك من استهداف ليبيا وسوريا.
هناك هدف يعرفه جيدا اللاعبون الدوليون المنخرطون في الجرائم المرتكبة ضد الدول الثلاث، ولنحسن النوايا ونقول ان بعض اللاعبين الإقليميين لا يعلمون بهذا الهدف، وهو باختصار إسقاط الدولة تنفيذا لاستراتيجية ما تسمى بــ «الفوضى الخلاقة» التي كشفت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، فما يحدث في الدول الثلاث هو بالضبط فوضى ولكنها ليست خلاقة، كما تقول الوزيرة الأمريكية السابقة، وإنما هي فوضى هدامة تؤكدها النتائج التي على أرض الواقع حيث الدول الثلاث لم تعد قادرة على ممارسة سلطات الدولة على جميع حدودها الجغرافية وتأمين سلامة مواطنيها على هذه الحدود.
فمخطط تقويض سيادة الدول على أراضيها من خلال إسقاط الأنظمة السياسية الحاكمة، وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم وما إذا كان ديمقراطيا أم استبداديا، ليس مخططا له أن ينحصر في الدول الثلاث، وإنما هناك دول كثيرة على قائمة هذا المخطط، ومنها الدول العربية التي شهدت ثورات ما يسمى الربيع العربي، وخاصة مصر نظرا لما تتمتع به من ثقل سياسي وبشري في المنطقة العربية، لكن مصر حتى الآن استطاعت أن تحد من تأثير هذا المخطط وتكبح جماح تنفيذه بعد تدخل الجيش المصري مباشرة في اللعبة السياسية التي أعقبت خلع الرئيس المصري السابق حسني مبارك وهي اللعبة التي كان من المفترض أن تكون بوابة العبور لإقحام مصر في نفس النفق الذي دفعت إليه الدول الثلاث السالفة الذكر.
مصر حتى الآن لم تسلم من مخطط التفتيت وإسقاط الدولة والدليل على ذلك تصاعد الأعمال الإرهابية في الكثير من المناطق وانتقالها من شبه جزيرة سيناء إلى أماكن أخرى في صعيد مصر، الأمر الذي يفرض على الحكومة المصرية ضغطا أمنيا كبيرا يشاغب ويشاكس جهودها لإعادة الحياة إلى اقتصادها الذي تأثر كثيرا بعد الأحداث السياسية التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، ودخول جماعة الإخوان المسلمين على خط المواجهة بعد عزل الرئيس محمد مرسي، لكن الأمل كبير في تمكن وقدرة مصر على إفشال مخطط تفتيتها وإلحاقها بشقيقاتها الثلاث.
33 3 دقائق