نون والقلم

السيد زهره يكتب: لسنــا أشباحاً.. نحـن أبنــاء الأمــة العربيـة

 السبب المباشر الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالات هو مقال سخيف ومستفز نشرته قبل فترة صحيفة بريطانية شهيرة هي «جارديان».

المقال كتبته صحفية أسترالية من أصل لبناني تزعم فيه أنه لا وجود لشيء اسمه العالم العربي أو الهوية العربية، وتطالب بالتوقف عن استخدام مثل هذه التعبيرات.

ما كنت لأتوقف عند هذا المقال المتهافت لولا أنه ليس معزولا. هو يأتي في سياق حملة كبرى، أو بالأحرى حرب شرسة يتم شنها في الغرب منذ سنوات طويلة على العرب والعروبة والقومية العربية. هي حرب يتم شنها على الأصعدة الأكاديمية والإعلامية والسياسية.

ما هي أبعاد هذه الحرب؟ وما هي أهدافها؟

ما هي مسؤوليتنا نحن العرب عن هذا الهجوم الشرس على العروبة؟ وما الذي يجب علينا أن نفعله؟

هذا ما سنناقشه في هذه المقالات.

‭}}}‬

«هوية شبحية»؟!

قبل فترة، نشرت صحيفة «جارديان» البريطانية مقالا طويلا لصحفية أسترالية من أصل لبناني سبق لها أن عملت في قناة الجزيرة الإنجليزية، وليس معروفا لها أي إنجاز فكري محدد. عنوان المقال «دعونا نمحو مصطلح العالم العربي».

كما هو واضح من العنوان، ما تذهب إليه هذه الصحفية في مقالها هو القول بأنه لا يوجد شيء اسمه العالم العربي، ولا يوجد شيء اسمه هوية عربية أو قومية عربية.

تقول إن أغلب التغطيات الدولية في وسائل الإعلام حين تتناول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فهي تظن أن المنطقة كلها عبارة عن مجموعة عرقية واحدة، بسبب أن الفكرة السائدة هي أنهم جميعًا يتحدثون اللغة العربية، لكن هذه الفكرة تتجاهل في رأيها إحصائية مهمة حديثة تظهر أن هناك 35 لهجة مستمدة من اللغة العربية يتم التحدث بها هناك.

وتقول إن مجرد تشارك 22 دولة يبلغ عدد سكانها 381 مليون نسمة باللغة العربية لا يكفي لجعلها جميعًا «عالما عربيا» متجانسا ومتشابها.

وتضيف أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتكون من العديد من الدول، تتحدث كل منها لهجة عامية مختلفة، وتلك اللهجة تُعدّ مؤشرًا واضحًا يظهر جنسية الشخص، فاللغة العربية في شمال إفريقيا غير مفهومة تقريبًا للمتحدث باللغة العربية في بعض بلاد الشام مثل لبنان.

ويذكر المقال انه قبل «غزو» مناطق عدة من قبل «العرب» لنشر الإسلام، كانت هناك حضارات قائمة بالفعل. نشأت العربية من قبائل بدوية في المناطق الصحراوية في شبه الجزيرة العربية، وبحلول القرن الثامن الميلادي بدأت اللغة العربية تنتشر في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، حيث اعتنق الكثير من الناس الإسلام، وكانوا مضطرين إلى الصلاة باللغة العربية، وهو الأمر الذي أسهم في انتشارها.

وتضيف أن مصطلح «العرب» استُخدم بقوة في القرن التاسع عشر، في محاولة للابتعاد عن الإمبراطورية العثمانية، بعد ذلك تم تضمين هذا المصطلح مع بدء إنشاء جامعة الدول العربية، وكان للمملكة العربية السعودية مجهود كبير في دعم هذا المصطلح الذي يخدم فكرتها باعتبارها مهد الإسلام و«العربية»، وفي الخمسينيات والستينيات أسهم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في انتشار المصطلح ضمن مشروعه القومية العربية.

ويعتبر المقال أن مصطلح «عرب» صار أقل شعبية في الشرق الأوسط، لأن القومية العربية صارت حركة «رجعيّة»، على حدّ تعبيره.

وتعتبر هذه الصحفية أن اللغة العربية لا تفعل شيئا سوى تكريس «هوية شبحية للعرب» و«العالم العربي»، أي أنها تعتبر أن العالم العربي شبح لا وجود له، والعرب أنفسهم أشباح، وهكذا الأمر بالنسبة إلى تعبيرات مثل الوطن العربي أو القومية العربية أو الأمة العربية.

ولهذا، تدعو كل أجهزة الإعلام والسياسة إلى عدم استخدام تعبيرات العالم العربي، والعرب، والعروبة.. وهكذا. وهي تستغرب وتستهجن مثلا أن هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» لديها وظيفة «محرر شؤون عربية»، أي أنها تدعو إلى عدم استخدام أي تعبيرات مثل «كاتب عربي» أو «مثقف عربي» أو قضية عربية أو وطن عربي.. وهكذا.

‭}}}‬

ما بعد العروبة؟

ما ذكرته هذه الصحفية ونشرته صحيفة «جارديان» لا يستحق أن نجهد أنفسنا في الرد عليه أو تفنيده. لكن القضية كما ذكرت في البداية أنه جزء من ظاهرة عامة في الغرب يجب أن نتوقف عندها.

هذه الصحفية لم تأت بأي جديد على الإطلاق، أعني أن القول إن العروبة لا وجود لها، ولا وجود لقومية عربية، ليس أمرا جديدا في التفكير الغربي وفي الكتابات الغربية.

أحتفظ في ملفاتي بعشرات الدراسات والتقارير والتحليلات التي تحمل عناوين مثل «موت العرب» و«نهاية العروبة» و«سقوط القومية العربية» و«موت أوهام الوحدة العربية».. وهكذا.

هذه التحليلات والتقارير يمتد تاريخ نشرها منذ عام 1967 حتى يومنا هذا.

الذي حدث أنه في أعقاب هزيمة 67 مباشرة انطلقت هذه الأفكار.

وقد سبق لي أن تطرقت إلى هذه الحملة عن «ما بعد العروبة» في محاضرة ألقيتها قبل سنوات عنوانها «حياة الأمة بين العروبة والطائفية».

واسمح لي عزيزي القارئ أن أورد ما ذكرته في المحاضرة بهذا الخصوص.

قلت إن المشروع الطائفي المطروح لمستقبل الأمة هو في الوقت نفسه مشروع عداء للعروبة وحرب عليها.

لهذا، ليس من قبيل المصادفة أن دورة الحياة الطائفية هذه التي يراد لها أن تحكم مستقبل الأمة وتحدده، أطلق عليها الكثيرون ممن يتبنون المشروع في أمريكا وفي الغرب «عصر ما بعد العرب وما بعد العروبة».

والمعني المباشر هنا بالطبع هو أن العروبة، وتعبيرات مثل الوطن العربي أو العالم العربي أو حتى العرب، لم تعد لها أي وزن أو قيمة أو تأثير في تقرير مستقبل هذه المنطقة.

أما أسباب وتبريرات ذلك بالنسبة إلى هؤلاء، فهي كثيرة.

بالنسبة إلى البعض، فإنه ليس هناك شيء اسمه عروبة أو قومية عربية أو أمة عربية.

وبالنسبة إلى الكثيرين، فإن العروبة كانت موجودة، لكنها ماتت وانتهت وتم نعيها.

سنجد فكرة «موت العروبة» هذه تتردد في الكثير من الكتابات ليس الأجنبية فقط ولكن العربية أيضا.

هنا سوف نلاحظ أمورا غريبة تستعصي على الفهم.

حين سقطت بغداد تحت أقدام الاحتلال الأمريكي، قرأنا تحليلات كثيرة جدا في الغرب وفي إيران، وأيضا للأسف بأقلام بعض المثقفين والكتاب العرب.. تحليلات ملخصها أن سقوط بغداد كان معناه في الوقت نفسه سقوط العروبة وموتها.

الغريب هنا أن نفس هذه الآراء التي أعلنت موت العروبة وشيعتها، سبق لنا أن قرأناها وسمعناها أكثر من مرة من قبل.

نعرف جميعا أنه حين وقعت هزيمة يونيو1967، اعتبر الكثيرون أن الهزيمة تعني في الوقت نفسه موت العروبة وموت المشروع القومي لثورة يوليو وجمال عبدالناصر.

وحين برزت ظاهرة ما سُمي بـ«الإسلام السياسي» وتنامت قوة الجماعات الإسلامية منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، قيل أيضا إن هذه الظاهرة هي إعلان موت للعروبة أو إيذان بموتها، على اعتبار أن جماعات الإسلام السياسي تطرح مشروعا نقيضا للعروبة وللمشروع القومي.

وحين احتلت العراق الكويت، أيضا قيل إن العروبة ماتت.

الغريب هنا هو: إذا كانت العروبة قد ماتت مرة، فكيف يمكن أن تموت مرة ومرات بعد ذلك؟

اللهم إلا إذا كانت العروبة حتى بمنطق هؤلاء الذين يتحدثون عن موتها، هي في حقيقة الأمر لا تموت.. هي في حقيقة الأمر عصية على الموت. وهذا واقع الحال فعلا.

الأمر الغريب الآخر هنا هو أن هذه الفكرة، فكرة موت العروبة، لا يتم تطبيقها إلا على الأمة العربية فقط. فهي تقوم على افتراض أن العروبة ما هي إلا مرادف للنظام الرسمي العربي والحكومات العربية، بل هي حتى مرادف لهذا الزعيم العربي أو ذاك.

وبحسب هذا المفهوم، فإنه إذا انتصرت الدول العربية في معركة، فمعنى هذا أن العروبة حية ترزق. وإذا هزمت دولة عربية، فمعنى هذا أن العروبة ماتت ودفنت.

هذا منطق غريب بلا شك. هوية الأمم وروحها القومية لا تموت ولا تحيا بتطور طارئ أيا كان. وعندما هزمت ألمانيا أو اليابان مثلا في الحرب العالمية الثانية، لم نسمع من يقول إن القومية الألمانية أو اليابانية ماتت.

‭}}}‬

مفارقات عجيبة

بالإضافة إلى ما ذكرته، يجب أن نسجل أن هذه الأحاديث التي لا تنتهي في الغرب عن موت العرب والعروبة ونهاية القومية العربية.. الخ، تنطوي على مفارقات كثيرة جدا تجعل منها أحاديث تفتقر إلى أدنى مقومات الموضوعية أو حتى العقلانية.

نستطيع أن نرصد هذه المفارقات على النحو التالي:

المفارقة الأولى:

إذا كانت العروبة لا وجود لها، أو أنها ماتت، والقومية العربية وهم من الأوهام، والعرب ما هم إلا أشباح، والهوية العربية ما هي إلا «هوية شبحية».. إذا كان الأمر هكذا، فلماذا إذن يتعبون أنفسهم في الغرب ويستنزفون طاقاتهم الفكرية والبحثية والسياسية في شن هذا الهجوم الشرس على العرب والعروبة والقومية العربية عاما بعد عام، وعقدا بعد عقد؟

ما الذي يزعجهم إذن؟ هل يفزع أحد أو ينزعج ويخاف من أشباح لا وجود لها؟

حقيقة الأمر أنهم يفعلون هذا ويشنون هذه الحرب الشرسة لأنهم يعلمون، أكثر منا نحن للأسف، أن العروبة والرابطة القومية العربية هي قوة ضاربة لو أن العرب عرفوا كيف يحولوها إلى مرتكزات قوة. يعرفون لأنها الركيزة الأساسية للتكامل والتوحيد العربي الذي لو حدث فسيكون العرب قوة عالمية كبرى.

هم يعرفون أن أي مخطط يستهدف إضعاف الدول العربية أو حتى القضاء عليها، ويستهدف تمزيق وتقسيم الدول العربية وإغراقها في الفوضى لا يمكن أن ينجح إلا إذا بدأ بمحاربة العروبة والرابطة القومية العربية.

المفارقة الثانية:

وإذا كانوا يشنون هذه الحرب على القومية العربية وأي رابطة قومية تجمع العرب، لماذا يتجاهلون حقيقة أن كل الدول التي لديها مشاريع ومخططات توسعية وطائفية واستعمارية في الوطن العربي هي بالذات التي تبذل جهدا هائلا في محاربة القومية العربية، وفي الوقت نفسه تستنهض قومياتها العنصرية وتعتصم بها وتؤججها؟

النظام الإيراني يشن منذ سنوات طويلة حربا مفتوحة على القومية العربية. وحين اجتاح العراق مثلا بعد الاحتلال الأمريكي كانت أحد أسلحته الكبرى محاربة الانتماء القومي العربي للشعب العراقي.

أمريكا والدول الأوروبية تفعل الشيء نفسه من شن حرب على العروبة والقومية العربية. وهذه الدول هي التي تخرج منها هذه التحليلات والتقارير التي نتحدث عنها والتي تتحدث عن موت العرب والعروبة.

وتركيا تفعل الشيء نفسه.

في الوقت نفسه الذي يحاربون فيه القومية العربية على هذا النحو، فإن استنهاض قومياتهم العنصرية كما ذكرت هو أحد أسلحتهم الكبرى لتنفيذ أطماعهم ومخططاتهم في الوطن العربي.

النظام الإيراني يستند إلى القومية الفارسية العنصرية ويعتبرها سلاحا لمشروعه الطائفي التوسعي.

النظام التركي يستند إلى إرثه العثماني القومي ويعتبره أيضا أكبر أسلحته.

العدو الصهيوني يستند إلى قومية صهيونية عنصرية إرهابية.

إذن، في الوقت الذي تحاربنا هذه الدول المعادية والطامعة في أوطاننا بسلاح القومية، يريدون أن ينزعوا منا سلاح قوميتنا وعروبتنا.

المفارقة الثالثة:

وفي الوقت الذي يستكثرون فيه علينا أن نتمسك بقوميتنا وعروبتنا، ويشنون هذه الحرب على العروبة، يتجاهلون حقيقة الصعود القومي في العالم كله في العقود القليلة الماضية.

كل دول العالم لجأت في العقود الماضية إلى إحياء قومياتها ونزعاتها القومية سواء في خطابها السياسي أو الإعلامي والفكري، أو على مستوى السياسات الفعلية، إذ سعت بشكل حثيث إلى رسم سياسات وخطط تهدف إلى تعزيز الانتماءات القومية خصوصا لدى الأجيال الجديدة.

وراء هذا الصعود القومي في العالم أسباب كثيرة، بعضها يتعلق بالأوضاع العالمية عامة، وبعضها يتعلق بأوضاع وتحديات وأخطار خاصة تواجه كثيرا من دول العالم.

على الصعيد العالمي العام، ارتبط هذا الصعود بانطلاق قطار العولمة وسقوط الحواجز بين الدول والثقافات والمجتمعات. هذه الظاهرة فجرت مخاوف في العالم كله من تأثيراتها السلبية على الهوية الوطنية وخاصة في أوساط الأجيال الجديدة، وتراجع الانتماءات الوطنية نتاجا لهذا بكل ما يترتب عليه من أخطار ونتائج سلبية.

لهذا وجدنا أن دول العالم تضع خططا وبرامج وسياسات تهدف إلى إحياء الانتماءات القومية واستعادة التراث القومي الخاص، والسعي إلى تعزيز الهويات والانتماءات الوطنية وخصوصا في أوساط الأجيال الجديدة.

حدث هذا في أغلب دول العالم، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.

الأمر الآخر أن كثيرا من دول العالم في مواجهة ما تعتبره أخطارا تهددها، لجأت إلى استنهاض القومية وتعزيزها.

خذ الدول الأوروبية مثلا. في الدول الأوروبية كثير من القوى والجماعات السياسية والثقافية والفكرية، تعتبر أن تزايد أعداد المسلمين في هذه الدول هو تهديد لهويتها، وتعتبر أن الهجرة تمثل أيضا تهديدا للهوية، ولهذا شهدت الدول الأوروبية في العقود الماضية صعودا كبيرا جدا للجماعات والقوى القومية اليمينية المتطرفة.

هذا مع العلم كما هو معروف أن هذا الصعود القومي في أوروبا يأخذ طابعا عنصريا متطرفا عنيفا سافرا.

إذن، في العالم كله، يعيدون إحياء القومية دفاعا عن الهويات الوطنية، أو في مواجهة ما يعتبرونها أخطارا تهدد هوياتهم، لكنهم في الغرب يريدون منا أن نكفر بقوميتنا العربية وأن نعتبر أنها وهم لا وجود له.

‭}}}‬

إذن، هذا هو الأمر بالنسبة إلى هذه الحرب الشرسة في الغرب على العروبة والقومية العربية وما وراءها.

لكن الصورة لا تكتمل إلا بالتطرق إلى مسؤوليتنا نحن. بعبارة أدق، لا بد أن نطرح السؤال: وماذا فعلنا نحن بعروبتنا وقوميتنا العربية؟

هذا ما سنناقشه في المقال القادم بإذن الله.

نقلا عن صحيفة اخبار الخليج البحرينية 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى